بين يقين التعود وقلق التمرد

محمد السكري - مصر عندما كنا صغارا كانت كلمة "صندوق" ترتبط في أذهاننا بمواسم الفرح ودخول الأعياد، فمن صندوق شوكولاته، الى صندوق حذاء جديد، إلى صندوق الألعاب كنا نلهو بين اندهاشة براءتنا وانبهار طفولتنا، ذات يوم وأنا طفل أغر سمعت في الأخبارعن الصندوق الأسود، فسألت أخي الأكبر الذي أفادني أنه صندوق أسود اللون نحتفظ فيه بالأحذية السوداء فقط وظللت أصدق ذلك حتى كبرت قليلا وعرفت أنه خدعني .  كان لدي جدي صندوق خشبي تسكنه العفاريت ورغم ذلك كان محل اهتمام كبار العائله الا جدتي التي كانت كلما مرت من أمام الصندوق أسرعت الخطى وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد أكدت لي هامسة وهي تتلفت حولها أن جدي الحاج عبد الهادي علي صلة بأولئك الجن الذين لا يكفون عن الكلام والغناء طوال اليوم، وانها أصبحت تعرف صوت كبيرهم الذي عندما يصيح :"هنا القاهرة" يهرع جدي كالمسحور ليجلس بحوار الصندوق في صمت وخشوع، و لم تكن جدتي تعرف أن الزمن القادم سيحمل الينا صندوق الجن الحقيقي الذي يلعب بمقدرات الشعوب والفقراء، سمعت عنه يوما في التلفاز وانا فتي يافع عندما قال الضيف للمذيعة الحسناء أن صندوق النقد الدولي يتآمر علينا يريد أن يذلنا و يضيع مستقبل أبناءنا وأننا بسببه نعوم فوق بركة من الديون، وإن كان صندوق النقد قد ضربنا علي أم رأسنا حتى دخنا، فعلي الجانب الآخر هناك صندوق لا حول له ولا قوه ولو نطق لفضح كثيرين ولسقط ساسة وزعماء وهو صندوق الاقتراع الذي شهد و يشهد على ظلم الإنسان لأخيه الصندوق.  في المساء حرصت أن أجلس مع أبي وضيفة الصحفي الكبير الذي جاء من القاهرة لزيارتنا، كنت مبهورا بحديثهما ،أجلس علي مقربة من الضيف و أنصت لكل كلمه في صمت تام، ثم قال الصحفي في معرض كلامه: يجب علينا يا أستاذ كامل أن نفكر قليلا خارج الصندوق، فالتبس عليّ الأمرأهو صندوق جدي الملعون، ام صندوق النقد، أم صندوق الأحذية الأسود؟ وهل هذا يعني أننا نسكن داخل الصندوق ؟ لم أفهم تعقيب والدي علي كلام الضيف عندما قال له :إن التفكير خارج الصندوق لا يسفر دائما عن أفكار عبقرية، وأنه يجب علينا أن نعرف ما بداخل الصندوق اولا قبل أن نفكر خارجه، كنت مستمتع جدا بحوارهما رغم اني لا أفهم معظم ما جاء فيه، في تلك المرحلة من عمري كنت حريصا علي أداء الصلاة في مسجد سيدي البيلي أبو غنام الذي يتوسط ضريحة المسجد الكبير، وبجوار الضريح كان هناك صندوق النذورالذي هو في الأصل أحد بدع المتصوفه، حيث يحصلون منه شهريا علي الملايين من تبرعات فقراء المسلمين الذين يعتقدون أنهم بتلك الأموال يبتغون الي الله الوسيلة أما الناس في باريس مدينة الحب والنور فقد إخترعوا منذ ما يزيد عن الثلاثة قرون صندوق البريد الذي أصبح بمثابة جسر المحبة الذي تتعانق عنده كل مشاعر الشوق واللهفة والقلق والفرح، ولكن تأبى صناديق القمامة المتناثرة في شوارعنا في كل مكان إلا أن تنغص علينا عيشتنا وتعيدنا إلى واقعنا الأليم رغم أن صندوق القمامة أصبح ذكيا في بلاد الفرنجة ويستطيع أن يجمع القمامة من المنازل ثم يقف في مكان خاص به وفي ميعاد محدد ليلقي ما بداخله في باطن عربات جمع القمامة، وأما "باندورا" فأبت الا أن يكون لها مقاما في بعض الصناديق وبالتأكيد ليس المقصود بذلك هو صندوق الطماطم، بل "صندوق باندورا" الذي تحكي عنه الأسطورة الإغريقية، باندورا هي المرأة الأولى على وجه الأرض في معتقدهم كما حواء عندنا ، وقد أهداها زيوس لإبيميثيوس ففتن بها وقرر أن يتزوجها على الفور، وبمناسبة الزفاف، قدم زيوس هدية للعروس عبارة عن صندوق ولكنه طلب منها ألا تفتحها أبداً. والحقيقة لا أعرف كيف يفكر العم زيوس فما قيمة الهدية إن ظلت مجهولة داخل الصندوق ،المهم سيطر الفضول على عقل باندورا، وبدأت تسمع أصواتاً تناديها من داخل الصندوق لكي تفتحه وفي النهاية قررت أن تفتحه ولو لثوانٍ معدودة فقط، لكي تعرف ما فيه ثم تغلقه بسرعه، وما أن رفعت الغطاء، حتى شمت رائحة كريهة، وسمعت أصوات ضوضاء.  كان "صندوق باندورا" يحتوي على كل شرور وأمراض العالم: الموت، الحروب، الأوبئة، الجشع، الكراهية، وكل ما يمكن أن يسمّم حياة الإنسان خافت باندورا وأعادت إغلاق الجرة، ولكن الأوان كان قد فات، وانتشرت الشرور بين البشر. وهنا نعود للعم زيوس لنسأله عن مقصده وهدفه من لك الهدية الملعونة ؟ كبرت و أصبحت اتوتر عندما اسمع كلمة "صندوق" لأنها ترتبط عندي في اللاوعي بكل ما هو غامض ومثير خاصة ما استجد منها مثل الصندوق السيادي الذي ربما جاءت تسميته ممن يمتلكونه وهم اسيادنا عجّل الله فرجنا وخلصنا منهم . محمد السكري - مصر مش لاقي شغل ؟ اشتغل لايف كوتش إن التقيت يوما بأحد أولئك الذين يطلقون علي أنفسهم لقب "لايف كوتش" فخذ خطوة إلى الوراء واستنفر وعيك لأنك على مسافة خطوة واحدة من الدخول في دوامة قد تكلفك الكثير، تماما مثلما يحدث عندما تلجأ لمن يطلق علي نفسه " لقب معالج روحاني"، فليس هناك فرق كبير بين اللايف كوتش و بين ذلك الرجل الذي احضرته خالتي نبويه ذات يوم ليقرأ على ابنتها -التي ترفض الزواج - بعض من آيات كتاب الله فأمسك الرجل عصا صغيرة وبدأ يمر بها على جسد البنت وقد غربت عيناه وارتعشت اذناه ثم في النهاية أخبر خالتي أن بنتها ملبوسه، وهو نفس ما يفعله تقريبا اخونا الكوتش، و كما يعرّف الدجال نفسه بأنه رجل تطفيش العفاريت فإن الكوتش يقدم نفسه علي أنه رجل خلق الأسباب، وكما يطرد الدجال الجن التي تسكن المنزل أو الجسد في جلسة أو جلستين فإن الكوتش يستطيع أن يعالج الاكتئاب الذي تعاني منه منذ سنوات بنصيحة أو نصيحتين .  ولهذه الفئة من الناس عناوين برّاقة، و جمل رنّانه، ووعود زائفة ، يربطون عملهم الوهمي بعلوم أخرى مثل البرمجة اللغوية العصبية، وعلوم الطاقة والتأمل، وقانون الجذب، ونظرية الفستق، وقانون الحمص...الخ عندما تتحدث مع طبيب نفسي درس وتخصص في علم النفس فإنك هنا تتلقى علم حقيقي، أما في مجال تزييف الوعي فإنهم يهتمون بال show أي بالطريقة التي من خلالها يتم توصيل المعلومة للجمهور، فهم يعتمدون على إمكانيات الكوتش في التأثير علي المتلقي بالكاريزما والحضور الطاغي، ولغة الجسد المبالغ فيها وطبقات الصوت المرتفعة، إن الكوتش يحاول أن يبيع لك الوهم خلال عدد ساعات محددة يتحوّل فيها التحفيز إلى مخدر، لتخرج من محاضرة تحفيزية إلى محاضرة تحفيزية أخرى تماما كما تفعل المسكنات أو المخدرات، في حين أن الاستماع إلى البسطاء ممن طحنتهم الحياة أو إلى رجل ناجح أو أديبة متميزة أمر يؤثر في النفس ويحفز الهمم أكثر من تلك الجلسات التي لم ينجز صاحبها نفسه شيئا ملموسا في حياته سوى أنه أصبح كوتش.  اعرف واحدة كوتش كانت تستفتيني في مشكلات عملائها و ماذا تفعل معهم وبماذا تنصحهم فكنت افتيها بكل بجاحه بالرغم من أنني راجل على باب الله فكانت تأخذ برأيي ثم تذهب لتعالج مريديها .  في المدرسة يعلمونك الدرس ثم يختبرونك، أما الحياة فإنها تختبرك ثم تعلمك الدرس وهي لا تحتاج إلي كوتش لانها اكبر كوتش في تاريخ البشر. إنها مهنة اصطياد المهزومين في الحياة فلا تكن فريسة لأحدهم .

محمد السكري - مصر

هناك أيام نتحدى فيها ذواتنا ليس بغرض الانتصار عليها، بل لنكتشف ما خلف جدران الاعتياد. ذات يوم قررت أن أعيش الصراع، صراعًا داخليًا مُفتعلاً، تجربة نفسية أضع فيها ذاتي موضع المراقِب والمراقَب.

بدأت اليوم بشرب الشاي مرًا بلا سكر، كأنني أعيد تعريف اللذة بعيدًا عن الاعتياد. ومع كل رشفة، كنت أشعر أنني أخوض مواجهة صغيرة مع رغباتي المبرمجة. تجاهلت الهاتف طوال اليوم، ليس كرفض للآخرين، بل كمحاولة للتمرد على الاعتماد المفرط على مصادر السعادة السطحية، وعلى التعلق بعالم افتراضي يغذي احتياجاتنا دون أن يرويها حقًا.

ابتعدت عن التفكير في موضوعات محددة، واختبأت من ذكريات تلاحقني.

بدأت الأصوات الداخلية ترتفع من خلف أسوار الصمت ، كما لو أنني أفسحت لها المجال لتتحدث دون قيود. تلك الأصوات التي كنت أهرب منها غالبًا بصخب الحياة. وعندما تحدثت أخيرًا، رفعت صوتي عن عمد، رغم أن الصوت العالي يزعجني دائمًا. أردت أن أفهم لماذا يستفزني الصوت العالي في الآخرين؟ هل هو التوتر الذي يحمله، أم شيئا آخر

قررت أن أتخلى عن اللغة الفصحى التي تمثل لي ملاذًا فكريًا، ولجأت إلى كلمات بسيطة. بدا وكأن الأفكار تتضاءل حين تُسجن في تعبير سطحي. شعرت وكأنني أقتل عمقًا في داخلي. أما الأسوأ فهو أنني تبنيت آراءً تتناقض تمامًا مع قناعاتي، كنت أجرب الكذب الواعي على نفسي. فتساءلت: هل خداع الذات أهون من خداع الآخرين؟

كل خطوة بدت وكأنها معركة صغيرة بين قوة الوعي وسلطة اللاوعي، بين ما أريده حقًا وما أفرضه على نفسي. كنت أريد أن أتحرر من عاداتي، لكنني شعرت أنني أغرق في محاولة عبثية لاستكشاف جوانب خفية من ذاتي.

وفي نهاية اليوم، عندما ذهبت إلى الفراش، تركت النور مضاءً، تحديًا لتعودي على النوم في الظلام . كان النور ساطعًا بشكل مزعج، لكنني أردت اختبار حدود احتمالي .

كان اليوم أشبه بتمرين على الانفصال عن ذاتي وعن عاداتي . بحثت عن مرآة لا تعكس صورتي الحقيقية، بل صورة تخيلية لما أظن أنني قد أكونه. وبينما أغمضت عيني، تساءلت: هل نعرف ذواتنا حقًا، أم أننا نصنع صورة لها ونصدقها لأننا لا نريد أن نرى صورة غيرها ؟
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-