توفيق أبو شومر - فلسطين
لماذا أصر والدي على إحضار طاحونتة الثقيلة على ظهر الحمار من مسقط رأسه، عام 1948م إلى معسكر اللجوء ولم يتركها في البيت؟! سؤالٌ أجاب عنه والدي قال: هذه الطاحون الحجرية أحضرتها من جبال الخليل إلى بلدتنا، وهى من رخام البازلت الصلب الخشن، وهو نوع من الصخور يتحمل الحرارة، كنا نستعمله في مواقد الطعام، أمضيتُ أسبوعا كاملا كي أقطع الحجرين إلى نصفين مستديرين، كسرت شاكوشين وعددا من الأزاميل الحديدية لكنني فرحت بإنجازي، كانت طاحونتنا تستقطب ضيوف قريتنا، بخاصة نساء جيراننا ممن يرغبن في طحن الحبوب، فتحتُ في وسط الحجرين بالضبط فتحة مستديرة بها عمود ليسهل تدوير الحجر العلوي فوق الحجر السفلي الثابت، الفتحة تسمح بوضع بذور حقلنا الجافة، القمح، والشعير، والفول، والحمص، والعدس، الطاحونة كانت من أهم أركان الطعام في البيت، ليصبح سائغا لذيذا، الطاحونة توفر الوقت والحطب لأنها تقطع الحبوب الجافة فتذوب بسرعة مما يُعجِّل في إنضاج الطعام، هذا مصدر سعادة النساء أيضا.
كنتُ أشاهد والدتي وهي تطحن بذور العدس والفول والحمص، كنتُ أساعدها في جرش الحبوب لتصبح طعاما شهيا، والدتي كانت تعيد مرة أخرى جرش الحبوب التي أطحنها بحجة أنني لا أجيد التعامل مع الطاحون، كانت والدتي تعتبر الطحن فنا من الفنون يجب أن يُراعى فيه نوع الحبوب والسرعة المطلوبة للطحن، كانت دائما تقول لي وهي تبتسم: الطحن يا بني فنٌ تجيده النساء فقط، نحن نشم رائحة الحبوب وهي تتكسر فتسري في أعماقنا سعادة غامرة، أنا أعرف كيف أجعل الحبوب تذوب في الرحى كما يذوب السكر في الفم، لكل نوعٍ من الحبوب طريقة خاصة، أنا ألاطف الحبوب وهي تدور بين حجري الرحي، اعتنِ أنت بدروسك، واترك الطحن لي. كنت حينما أعود إلى البيت من مدرستي أسمع صوت الرحى أظنها موسيقى وسيمفونية حزن ودموع تذرفها أمي على حقلنا المسلوب!
لماذا وضع والدي هذه الطاحونة عامدا في مدخل البيت؟ أدركت أنه كان يود أن يسمع إعجاب الزائرين واستغرابهم لوجود هذه الطاحونة في بيتنا، كلهم كانوا يسألون مَن جلب هذه الطاحونة؟ كان والدي ينتظر هذا السؤال بشغف ليسرد رحلة حجري البازلت من جبال الخليل إلى مخيم اللجوء!
لم أكن أتخيل أنني سأعود مرة أخرى لاجئا إلى طاحونة والدي عام 2023م! لم أكن أتخيل أنني سأعيدها إلى الحياة وأبعثها من جديد، لندرة طحين الخبز في خيام اللجوء وأنا نازح مشرد!
قررتُ بسبب كارثة النزوح، وشُح الخبز والدقيق أن أشتري ما يتوفر من حبوب القمح والشعير المشوهة الجافة من محلات البيع القليلة، لأقوم بطحنها لعلها تفي بالغرض لنتمكن من الحصول على الخبز، عثرنا بعد جهد على محل يبيع بعض حبوب القمح الجافة، كانت هذه الحبوب تباع قبل اللجوء علفا للماشية والحيوانات والطيور لكنها اليوم مطلوبة لتسديد الجوع، كان هناك سؤال إنكاري يبدو في عيونُ أقاربي: هل يمكننا أن نحول هذه الحبوب إلى دقيق يصلح للخبز بواسطة هذين الحجرين المهجورين؟!
قلتُ: أنتم لا تعرفون قدرات هذين الحجرين، بهما نستطيع طحن دقيق القمح، فرح أبناء أخي بالاكتشاف الجديد فهو تجربة مثيرة، استعدوا لجولة مع طاحونة جدهم، كنت أرى علامات السرور بادية على وجوههم، فهم حتى اليوم لم يشعروا بألفة تجاه هذين الحجرين الصلبين المستديرين سوى أنهما عبءٌ ثقيل مهجور ينبغي التخلص منهما!
كانت عيونهم تنظر إليَّ باعتباري خبيرا في إدارة الطاحونة، لأنني كنت كما قلت لهم أساعد والدتي في الطحن، شعرتُ بلذة غامرة لأنني صرت قائدا لمعركة الطحن، أمرتُ بتثبيت يدٍ من الخشب في الحجر العلوي لتسهل إدارته، ثم أمرتُ بإعداد مفرش من النايلون تحت حجر الطاحونة السفلي ليكون مستقرا للطحين، كنتُ أرى الفرح المكتوم على وجوه أبناء أخي وهم يسرعون في تنفيذ طلباتي، فهم ينتظرون فيلما يصورونه في هواتفهم المحمولة عن طاحونة جدهم!
بدأ اختبار الطحن، حركتُ الطاحون بيدي اليسرى، أما اليمنى كنت أضع بها حفنة من حبوب القمح الجافة في الثقب الأوسط للطاحونة، شعرتُ بعد دقيقة بثقل حجر الطاحونة، أحسستُ بالتعب بعد دقيقتين، أرجعتُ ذلك لتقدمي في السن، وغياب صوت موسيقى الرحى بسبب الطائرة الزنانة فوق رؤوسنا، غير أن سبب إرهاقي وإحباطي السريع لا يعود إلى الجهد العضلي، بل يعود إلى نتيجة الطحن، فقد كانت حبوب القمح تخرج من أطراف الرحى سليمه معافاة، بها بعض الخدوش البسيطة! كنت أرى بسمات أبناء أخي المكتومة تؤشر على فشلي في مهمة الطحن! بدأتُ أنحتُ مبررات الفشل قلتُ: إن الصخرتين منذ زمن بعيد فقدتا الخشونة اللازمة للطحن، كنت في الحقيقة غير مقتنع بهذا المبرر، ثم اهتديت إلى مُبرر آخر ربما يكون أكثر إقناعا، قلت بحماسة: إن سبب خروج بذور القمح سليمة معافاة يرجع إلى البذور نفسها، فهي بذورٌ جافة جدا لا تشبه بذور حقولنا، فهي مشبعة بالمبيدات الحشرية وأنواع السماد، وهي أيضا مجففة في معامل كيماوية ومضاف إليها أخلاط من المواد لتصبح صالحة للتصدير والبقاء سنوات بدون أن يستوطنها السوس، فهي ليست حبوب حقول أرضنا، فحبوب أرضنا كانت تُجفف طبيعيا تحت أشعة الشمس الساطعة، لكنني أحسستُ بأن أبناء أخي لم يقتنعوا أيضا بهذا التفسير، فأنا لم أنجح في قيادة الرحى، انسحبت من مركز القيادة، قال أحد أبناء أخي: دعني أجرب حظي في الطحن، جلس مكاني وشرع في استخدام عضلاته القوية، كنت أرى أنه نجح في شق البذور إلى نصفين أو ثلاثة أجزاء، غير أنني قلت له مداعبا محاولا ألا أمنحه الإطراء، إنك طحنت ما طحنتُه أنا من قبل، ولم تطحن شيئا جديدا، عليك أن تعيد الطحن عدة مرات لنتمكن من الحصول على خبز خشن ربما يكفي وجبة واحدة فقط!
حصيلةُ الطحن بعد ساعة ونصف الساعة لا يمكنها أن تصنع رغيف خبز واحد بسبب خشونة المطحون من الحبوب، أخيرا أنقذتني امرأة أخي عندما قالت: إن كسارة القمح المطحونة لا تصلح للخبز ولكن، يمكن أن نطبخ منها بضعة صحون من البرغل، فهي وجبتكم الوحيدة لهذا اليوم!