طاحونة والدي في مخيم اللجوء

توفيق أبو شومر - فلسطين الجنازة الأولى كان طريقي الوحيد من مكان نزوحي إلى مكان نزوحي الثاني يمر عبر مقبرة واسعة ممتلئة بالقبور، كنت أسير وسطها في طريق رسمته أرجلُ المشاة بين القبور، كانت جماهير المشيعين تتكوم حول القبور في انتظار إتمام طقوس الدفن، انقطعت كل الاتصالات منذ أربعة أيام، لم نعد نعرف أسماء الشهداء، والأهم لم نعد نعرف حال بقية أهلنا المشتتين في أماكن النزوح، هل هم من المصابين والشهداء، أم هم من الناجين؟ لذلك لابد أن نذهب لرؤيتهم يوميا لنطمئن عليهم. كانت أكواُمُ المشيعين في صباح هذا اليوم تتحلق حول ثلاثة قبور في المقبرة التي امتلأت منذ مدة طويلة، كل الذين يدفنون في ساعات الصباح الأولى استشهدوا يوم أمس فقط، غارات القتل والدمار مساء الليلة الفائتة كانت عديدة لدرجة أن عدد الذين استشهدوا في هذا اليوم وفق تقدير الإذاعات المسموعة بلغ سبع عشرة ضحية جرى انتشالها في ساعات الصباح الأولى، وهناك مفقودون من الأطفال والنساء ما يزالون تحت الركام.  محظوظون هم الذين لهم أهل أو أقارب كي يتولوا دفنهم!  عندما زرتُ مستشفى الأقصى قبل يومين رأيتُ خيمة واسعة داخل ساحة المستشفى مملوءة بجثث الشهداء لأن ثلاجة الموتى تكتظ بأجساد كثيرين ممن لم تعرف أسماؤهم، أو ممن استشهد كل أفراد عائلاتهم ولم يبق لهم مَن يتعرفون عليهم وينقلونهم للمقبرة المكتظة بالجثث إما محمولين على الأكتاف أو على عربات الأحصنة والحمير، ومن ثم يحفرون لهم القبور، محظوظون مّن يظفرون بقبرً في المكان المكتظ بجثث الشهداء! ما أكثر الذين لا يجدون لهم قريبا أو صديقا يكمل مهمة الدفن، هناك عائلات بكاملها قد استشهدت، ولم يبق لهم أحد يشيعهم إلى مثواهم الأخير، بقيت جثثهم في المستشفى، لا تستوعبهم ثلاجة الموتى الصغيرة، لذلك فقد حفر مسؤولو المستشفى مقبرة داخل أسواره ليتمكنوا من أن يواروا كل الذين ليس لهم من يتولى دفنهم.  سمعت وأنا أسير داخل سور المقبرة جدالا بين أحد المشيعين ومسؤول الدفن، لأن المسؤول يرفض إغلاق قبر أبيه الشهيد بالتراب، قال له: "لن أُغلق القبر قبل أن يدفن معه شهيدان، كل ثلاثة شهداء في قبر واحد" لذلك أبقوا القبور مفتوحة، بغطاء شفيف من الزنك القديم المهترئ.  طأطأت رأسي وأنا أسير بين القبور، أسرعت الخطى، حتى لا يراني أحد معارفي ممن يتولون دفن موتاهم، لأنني سأضطر إلى أن ألتزم بإتمام الطقس كاملا، وبالتالي سوف أتأخر عن الوصول إلى مكان نزوحي الثاني! سمعتُ المؤبن يأمر المعزين الواقفين عند أحد القبور بالجلوس عقب إنهاء عملية الدفن، ويقول: إنهم عائلة بريئة اختارهم المولى إلى جواره، هم خمسة شهداء من عائلة واحدة، عاشوا كرماء عفيفين محبوبين من الجيران والأقارب، هم اليوم شهداء، اللهمّ افسح لهم في قبورهم مكانا في الرضوان، اللهمّ أعذهم من عذاب القبر، وجفاف ِالأرض، اللهمّ املأ قبورهم بالهناء والوفاء، والغبطة، والسّرور. هكذا استعمل المؤبن صوته الجهوري وبراعته في اللغة ليطفئ نار الفقد عند ذويهم ومعارفهم المتحلقين حول القبر. سرتُ باحثا عن وسيلة نقل توصلني إلى مكان نزوحي الثاني، لأن بقية أهلي يسكنون في خيمة بعيدة عن مكان نزوح زوجتي، حاولت أن أجد وسيلة نقل للمكان، لكنني فشلت حتى في إيجاد عربة كارو، اضطررت أن أسير المسافة كلها على قدميَّ وصلت خيمة لجوئي كنتُ منهكا جائعا، لمحت حالة من الوجوم على وجوه أقاربي في الخيمة، قالوا منذ وقت قصير عرفنا بأن عائلة ابنة أختك، هي وزوجها وثلاثة من أبنائها قد استشهدوا ليلة أمس ودمر منزلهم بالكامل، وقد جرى دفنهم سريعا، لقد علمنا بالخبر قبل قليل فقط!  فقدتُ توازني بسرعة، انهار جسدي على حصيرة الخيمة، خشيت أن أقول لهم إنني كنت بجوار قبورهم، وكان المؤبن يؤبن عائلة ابنة أختي، وأنا لا أعلم من هم الشهداء! الجنازة الثانية كانت تنعم في بيتٍ مكون من ثلاثة طوابق، فيلا فارهة، كان شارعها هادئا نظيفا جميلا، ظلتْ وهي فتاة جميلة تسعى للحصول على الثروة والمال لتجعل أبناءها سعداء منعمين، ولما طار أبناؤها من حُضنها أحست بالكآبة والخوف من الموت، لذلك ظلت تحاول الحصول على نبتة الخلود، نبتة البطل الأسطوري جلجامش، كانت ترى أنها أكملت دورها في الحياة، كانت تحاول أن تجعل من بيتها مزرعة وبيتا جميلا، زرعت سطح البيت بالأشجار والورود، وأنبتت في ساحة البيت الخارجية أشجار الليمون والبرتقال، كانت تجمع في ثنايا غرفة نومها، سريرا وثيرا تفخر بامتلاكه من خشب الزان الفاخر. اعتادتْ أن ترى علامات الإعجاب بفيلتها الجميلة على وجوه زائريها، كانت تتعمد أن تحضر لهم بعض ثمار حديقتها ليتذوقوا حلاوة البلح والعنب والتين، اعتادت أن تشرح لهم كيفية الحصول على أنواع تينٍ منوعة من شجرة واحدة، وكيف أن في كل فرعٍ من فروع شجرة التين نوعا مختلفا، تين أسود، وآخر حماضي، وثالث تركي، ورابع بحري!  ظلت تفتخر بابنها الذي هاجر إلى أمريكا وتزوج هناك وأنجب ابنته، وكانت تطلبه بالهاتف عند أول زائر من الزوار لتُسمع زائريها صوته، وأنه ما يزال يحبها! هي أيضا تحتفظ في غرفة الجلوس بما يذكرها بمسقط رأس والدها، تحتفظ بثوب أمها المطرز بألوان الورود، وتحتفظ بصورة والدها وهو يحتضنها طفلة صغيرة ضمن أفراد الأسرة! كانت تشعر بأقصى درجات السعادة وهي تحتفل بزواج ابنتها لأحد الأقارب، قررت مُكرهة أن تواصل رحلة البحث عن عشبة الخلود، ولكنها فجأة أضحت في غمضة عين نازحة في خيمة إيواءٍ في أقصى جنوب غزة، تسكن خيمة ليس فيها أبسط مقومات الحياة، خيمة لا تقيها من البرد، بعد أن كان في بيتها ثلاثة أنواع من التدفئة المكيف الكهربي، ومكيفات الكيروسين، بالإضافة إلى مدفئة الحطب!  ظلتْ شهرا كاملا تحلم بأن تعود إلى مسكنها الجميل، كانت تبتسم لكل خبر يشي بقرب الوصول إلى اتفاق يسمح لها أن تعود إلى سرير نومها، وإلى أشجارها، ظلت تبكي كلما سمعت المحيطين بها يرددون لا أمل في العودة، كانت تبكي بصوت عالٍ عندما تقصف طائرات الاحتلال أي منزل في جباليا! قالت ابنتها: غفت على وقع قصف المدافع والطائرات غفوة سريعة لكنها استيقظت على صوت المذيع في هاتفها الخاص، وكان آخر خبر سمعته في الإذاعة: "دمر المحتلون مربع بيتها السكني بأحزمة نارية" لم نعد نسمع حركتها الدائمة، ظننا أنها غفت غفوة طويلة بعد أن عانت في مساء اليوم الفائت من تعب وإرهاق، رفضت أن تشرب منقوع حبات العدس الصفراء، وكسرة من الخبز المغموس في شوربة العدس.  كنت قريبا جدا من مكان جنازتها، كانت المسافة فقط أقل من عشرة كيلومترات، غير أن المسافات في وطني لا تقاس بالمقاييس الجغرافية المعتادة، بل تقاس بعدد الدبابات وعدد القنابل التي تقصف الأبنية والبيوت والسيارات وعدد الشهداء في هذا اليوم،  كنا نعلم أنها تعاني من أمراض النزوح كما نعاني، غير أنها كانت هي الأسوأ، بخاصة في شهر يناير وفبراير 2024م حيث موجة البرد الشديدة في الخيام. لم تكن الاتصالات متاحة في ذلك اليوم، خبر وفاتها وصلنا بعد دفنها بعدة ساعات عانت من النزوح والبرد، لم تحتمل فراق فيلاتها الفاخرة وفراشها الوثير فاكتأبت، ولم تعد قادرة على الحديث. كانت هذه الجنازة هي أيضا جنازة أختي التي لم أتمكن من المشاركة فيها!

توفيق أبو شومر - فلسطين

لماذا أصر والدي على إحضار طاحونتة الثقيلة على ظهر الحمار من مسقط رأسه، عام 1948م إلى معسكر اللجوء ولم يتركها في البيت؟! سؤالٌ أجاب عنه والدي قال: هذه الطاحون الحجرية أحضرتها من جبال الخليل إلى بلدتنا، وهى من رخام البازلت الصلب الخشن، وهو نوع من الصخور يتحمل الحرارة، كنا نستعمله في مواقد الطعام، أمضيتُ أسبوعا كاملا كي أقطع الحجرين إلى نصفين مستديرين، كسرت شاكوشين وعددا من الأزاميل الحديدية لكنني فرحت بإنجازي، كانت طاحونتنا تستقطب ضيوف قريتنا، بخاصة نساء جيراننا ممن يرغبن في طحن الحبوب، فتحتُ في وسط الحجرين بالضبط فتحة مستديرة بها عمود ليسهل تدوير الحجر العلوي فوق الحجر السفلي الثابت، الفتحة تسمح بوضع بذور حقلنا الجافة، القمح، والشعير، والفول، والحمص، والعدس، الطاحونة كانت من أهم أركان الطعام في البيت، ليصبح سائغا لذيذا، الطاحونة توفر الوقت والحطب لأنها تقطع الحبوب الجافة فتذوب بسرعة مما يُعجِّل في إنضاج الطعام، هذا مصدر سعادة النساء أيضا.
كنتُ أشاهد والدتي وهي تطحن بذور العدس والفول والحمص، كنتُ أساعدها في جرش الحبوب لتصبح طعاما شهيا، والدتي كانت تعيد مرة أخرى جرش الحبوب التي أطحنها بحجة أنني لا أجيد التعامل مع الطاحون، كانت والدتي تعتبر الطحن فنا من الفنون يجب أن يُراعى فيه نوع الحبوب والسرعة المطلوبة للطحن، كانت دائما تقول لي وهي تبتسم: الطحن يا بني فنٌ تجيده النساء فقط، نحن نشم رائحة الحبوب وهي تتكسر فتسري في أعماقنا سعادة غامرة، أنا أعرف كيف أجعل الحبوب تذوب في الرحى كما يذوب السكر في الفم، لكل نوعٍ من الحبوب طريقة خاصة، أنا ألاطف الحبوب وهي تدور بين حجري الرحي، اعتنِ أنت بدروسك، واترك الطحن لي. كنت حينما أعود إلى البيت من مدرستي أسمع صوت الرحى أظنها موسيقى وسيمفونية حزن ودموع تذرفها أمي على حقلنا المسلوب!
لماذا وضع والدي هذه الطاحونة عامدا في مدخل البيت؟ أدركت أنه كان يود أن يسمع إعجاب الزائرين واستغرابهم لوجود هذه الطاحونة في بيتنا، كلهم كانوا يسألون مَن جلب هذه الطاحونة؟ كان والدي ينتظر هذا السؤال بشغف ليسرد رحلة حجري البازلت من جبال الخليل إلى مخيم اللجوء!
لم أكن أتخيل أنني سأعود مرة أخرى لاجئا إلى طاحونة والدي عام 2023م! لم أكن أتخيل أنني سأعيدها إلى الحياة وأبعثها من جديد، لندرة طحين الخبز في خيام اللجوء وأنا نازح مشرد!
قررتُ بسبب كارثة النزوح، وشُح الخبز والدقيق أن أشتري ما يتوفر من حبوب القمح والشعير المشوهة الجافة من محلات البيع القليلة، لأقوم بطحنها لعلها تفي بالغرض لنتمكن من الحصول على الخبز، عثرنا بعد جهد على محل يبيع بعض حبوب القمح الجافة، كانت هذه الحبوب تباع قبل اللجوء علفا للماشية والحيوانات والطيور لكنها اليوم مطلوبة لتسديد الجوع، كان هناك سؤال إنكاري يبدو في عيونُ أقاربي: هل يمكننا أن نحول هذه الحبوب إلى دقيق يصلح للخبز بواسطة هذين الحجرين المهجورين؟!
قلتُ: أنتم لا تعرفون قدرات هذين الحجرين، بهما نستطيع طحن دقيق القمح، فرح أبناء أخي بالاكتشاف الجديد فهو تجربة مثيرة، استعدوا لجولة مع طاحونة جدهم، كنت أرى علامات السرور بادية على وجوههم، فهم حتى اليوم لم يشعروا بألفة تجاه هذين الحجرين الصلبين المستديرين سوى أنهما عبءٌ ثقيل مهجور ينبغي التخلص منهما!
كانت عيونهم تنظر إليَّ باعتباري خبيرا في إدارة الطاحونة، لأنني كنت كما قلت لهم أساعد والدتي في الطحن، شعرتُ بلذة غامرة لأنني صرت قائدا لمعركة الطحن، أمرتُ بتثبيت يدٍ من الخشب في الحجر العلوي لتسهل إدارته، ثم أمرتُ بإعداد مفرش من النايلون تحت حجر الطاحونة السفلي ليكون مستقرا للطحين، كنتُ أرى الفرح المكتوم على وجوه أبناء أخي وهم يسرعون في تنفيذ طلباتي، فهم ينتظرون فيلما يصورونه في هواتفهم المحمولة عن طاحونة جدهم!
بدأ اختبار الطحن، حركتُ الطاحون بيدي اليسرى، أما اليمنى كنت أضع بها حفنة من حبوب القمح الجافة في الثقب الأوسط للطاحونة، شعرتُ بعد دقيقة بثقل حجر الطاحونة، أحسستُ بالتعب بعد دقيقتين، أرجعتُ ذلك لتقدمي في السن، وغياب صوت موسيقى الرحى بسبب الطائرة الزنانة فوق رؤوسنا، غير أن سبب إرهاقي وإحباطي السريع لا يعود إلى الجهد العضلي، بل يعود إلى نتيجة الطحن، فقد كانت حبوب القمح تخرج من أطراف الرحى سليمه معافاة، بها بعض الخدوش البسيطة! كنت أرى بسمات أبناء أخي المكتومة تؤشر على فشلي في مهمة الطحن! بدأتُ أنحتُ مبررات الفشل قلتُ: إن الصخرتين منذ زمن بعيد فقدتا الخشونة اللازمة للطحن، كنت في الحقيقة غير مقتنع بهذا المبرر، ثم اهتديت إلى مُبرر آخر ربما يكون أكثر إقناعا، قلت بحماسة: إن سبب خروج بذور القمح سليمة معافاة يرجع إلى البذور نفسها، فهي بذورٌ جافة جدا لا تشبه بذور حقولنا، فهي مشبعة بالمبيدات الحشرية وأنواع السماد، وهي أيضا مجففة في معامل كيماوية ومضاف إليها أخلاط من المواد لتصبح صالحة للتصدير والبقاء سنوات بدون أن يستوطنها السوس، فهي ليست حبوب حقول أرضنا، فحبوب أرضنا كانت تُجفف طبيعيا تحت أشعة الشمس الساطعة، لكنني أحسستُ بأن أبناء أخي لم يقتنعوا أيضا بهذا التفسير، فأنا لم أنجح في قيادة الرحى، انسحبت من مركز القيادة، قال أحد أبناء أخي: دعني أجرب حظي في الطحن، جلس مكاني وشرع في استخدام عضلاته القوية، كنت أرى أنه نجح في شق البذور إلى نصفين أو ثلاثة أجزاء، غير أنني قلت له مداعبا محاولا ألا أمنحه الإطراء، إنك طحنت ما طحنتُه أنا من قبل، ولم تطحن شيئا جديدا، عليك أن تعيد الطحن عدة مرات لنتمكن من الحصول على خبز خشن ربما يكفي وجبة واحدة فقط!
حصيلةُ الطحن بعد ساعة ونصف الساعة لا يمكنها أن تصنع رغيف خبز واحد بسبب خشونة المطحون من الحبوب، أخيرا أنقذتني امرأة أخي عندما قالت: إن كسارة القمح المطحونة لا تصلح للخبز ولكن، يمكن أن نطبخ منها بضعة صحون من البرغل، فهي وجبتكم الوحيدة لهذا اليوم!
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-