أخبارُ أطفالِنا في العالمِ عامة والعربيّ خاصّةً تؤرقُ فكري وعيني وقلبي، وأبيات شعريّةٌ تراود هاجسي وتخاطب جوارحي الداخلية وأحاسيسي اللامنظورة:
أنزلني الدهرُ على حكمِهِ/ من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ/ لولا بنيّاتٌ كزُغْبِ القطا/ أُجْمِعْنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكان لي مضطربٌ واسعٌ/ في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ/وإنـما أولادنـا بيننـا/ أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبّت الريحُ على بعضِهم/ لامتنعتْ عيني عن الغمض
كيف بهم حين يمشونَ حفاةً على مساكبِ الشّوك، وعراةً تحتَ وهج نيرانِ الحرب ولظى الفقر والإهمال؟ كيف لأولي أمرهم وذويهم؛ مَن ينبغي أن يكونوا لهم أرضًا ذليلةً تنبتهم وترعاهم، وسماءً ظليلةً تحنو عليهم وترأف بهم، حين يعتريهم هزالٌ وكسلٌ عندَ قطفِ ثمارِ قلوبهم؟ فهل تضيعُ الغمارُ والثمارُ (الأبناءُ)، في سِلالٍ هشّةٍ من الأوراق الرّسميّة الواهية؟
ضجيجٌ عارمٌ حولَ قانونٍ أقرّهُ المجلسُ الشّوريّ المصريّ، يُجيزُ فيهِ للأمِّ المصريّةِ أن تَنسبَ الطّفلَ إليها في أوراقِ ميلادِهِ الثّبوتيّةِ!
قانونٌ يُجيزُ نسبَ المولودِ إلى أّمّهِ ولا يُلزمْ ولا يُجبرْ؟ إذًا هو قانونٌ اختياريٌّ لا بدّ أن يخدمَ شريحةً معيّنةً، وليسَ مفروضًا على المواطنِ المصريِّ!
لماذا قوبلَ القانون باستهجانٍ ورفضٍ شديدَيْن، مِن كثيرٍ مِن فئاتِ المجتمعِ المختلفة، منذ شهر آذار عام 2009؟ ولماذا لازالَ هذا الموضوعُ يحتلُّ جدلاً في أوساطِنا العربيّةِ خاصّة؟ هل هو الخوف من عدوى تفشي القانون وانتشاره في الدّول العربيّة قاطبة؟
هل لِما في الأمرِ مِن خروجٍ عمّا ألفَهُ المواطنُ العاديُّ عبْرَ قرونٍ وعصورٍ؟ أم لأنّ القانونَ حملَ ما حملَ مِن تأويلاتٍ واحتمالاتٍ وأبعادٍ، لم يُدرك المواطنُ البسيطُ كنهَها دينيًّا واجتماعيًّا، فاختلطَ الحابلُ بالنّابل؟
النّاشطة النّسائيّة د. نوال السّعداوي أطلقتْ دعوةً منذ زمن بعيد، طالبتْ فيها بتعديلِ القوانين، وإعطاءِ المرأة حقَّها في نسْبِ المولودِ إليها، لكنّها هوجمتْ ورُفِضَ اقتراحُها حينذاك تحتَ مُبرّراتٍ شتّى، وكأنّ في الأمرِ تحقيرٌ للطّفل! لكن؛ ما الّذي دعا ودفع بحكومةِ مصر إلى سنّ وإقرارِ هذا القانون، بإيعاز مُعزَّز مِن مشيرة الخطاب، رئيسة المجلس القوميّ للأمومةِ والطّفولةِ بمصر، وفي هذا الوقت بالذات؟
*هل المسألةُ او المعضلة محصورةٌ في نسْبِ المولودِ للأبِ أو الأمّ أو معًا في أوضاعٍ طبيعيّةٍ للأسرة كحقٍّ شكليٍّ للمرأة؟ أم أنّ الأمرَ يتعدّى موضوعَ الانتساب، إلى مُداراةِ ظواهر اجتماعيّةٍ غير سويّة؟
*هل تعديلاتُ هذا القانون مصريّةٌ وغيرُ مستوردةٍ، وليستْ بإيحاءاتِ جهاتٍ أجنبيّةٍ تعرّضتْ لضغوطِها؟ أم هي فعلاً وليدةُ حاجةٍ قصوى، تستدعي تداركَ أوضاعٍ اجتماعيّةٍ مُزريةٍ تحتاجُ إلى علاج؟
بحسبِ تصريحاتِ مشيرة الخطاب، فإنّ التعديلاتِ تمّ إعدادُها وصياغتُها مِن قِبلِ اللّجنةِ التّشريعيّةِ بالمجلسِ القوميِّ للأمومةِ والطّفولة، وقامت لجنةٌ من وزارةِ العدلِ بتنقيتِها قبلَ تقديمِها لمجلس الشّعب، وهذه التّعديلاتُ مصريٌّةٌ خالصةٌ 100%.(إيمان عبد المنعم - شريف الدّواخلي).
أيّ نوعٍ مِن الأمّهاتِ يقصدُ بها القانونُ المصريّ؟
هل يقصدُ الأمَّ المصريّةَ الّتي تربطُها علاقةٌ زوجيّةٌ شرعيّةٌ مع زوجٍ مصريٍّ هو والدُ أبنائِها، أم كما في حالةِ نوال حلمي ابنة د. نوال السّعدي؟
أم أنّ الزّوجَ غيرُ مصريٍّ ويحملُ جنسيّةً أخرى؟ أم هي الأمُّ الّتي لا يعترفُ والدُ ابنِها إن كانَ شرعيًّا أو غيرَ شرعيٍّ ببنوّةِ الوليد؟ أم هي الأمُّ المصريّةُ مَن كان والدُ وليدِها مصريًّا لكن مجهولُ الهويّة؟
أم أنّ الأمَّ عازبةٌ وليس لديها وثيقةُ زواجٍ، إذ خضعتْ للزّواج المبكِّر، ولا تملكُ عقدًا قانونيًّا لأنّها دونَ سنِّ الزّواج؟ أم........؟
هل إقرار قانونٍ يُجيزُ للأمِّ أن تَنسبَ الطّفلَ إليها، وتُسجّلَهُ بنفسِها دونَ حاجةٍ لوثيقةِ زواج، سيحلُّ فعلاً مشكلتَها ومشكلةَ وليدِها اجتماعيًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا لاحقًا؟ أم أنّ الحلَّ هذا سيظلّ شكليًّا، إن لم يكنْ قنبلةً موقوتةً قد تنفجرُ في أيّةِ لحظة؟
لكن؛ أليس إزاحةُ النّسبِ غير الشّرعيّ عن كاهلِ الأبِ البيولوجيّ، وإلحاقُ الخطيئةِ ووصمةِ العارِ بالأمّ وحدها وبعائلتِها، فيه الكثير مِن التّمييز وتحميلِها المسؤوليّة الكاملة، إن لم يكن انتقاصًا مِن قدْرِها وقدْرِ وليدِها؟
وهل هذا القانونُ يوفّرُ مظلّةً قانونيّةً لأطفالٍ يعانونَ من خللٍ اجتماعيٍّ، ناتجٍ عن عدم وجودِ الأب نتيجةَ ظروفٍ غامضةٍ، كحوادثِ الاغتصابِ والدّعارة والزّواجِ المبكّرِ والاستغلالِ؟
وهل يُراعي القانون فعليًّا تحقيقَ مصلحةِ هؤلاء الأطفال، من أجل حمايتِهم والتّصدّي لظواهرِ العنفِ ضدّهم، وضمانِ حصولِهم على حقوقِهم، وتوفيرِ ظروفٍ معيشيّةٍ كريمةٍ أفضلَ لهم؟ وهل يتمكّنُ القانونُ مِن الحدِّ مِن هذهِ الآفةِ الاجتماعيّةِ في العقودِ القادمةِ؟
وهل القانون هذا يساهمُ مساهمةً فاعلةً إيجابيًّا في حلِّ مشكلةِ ابن الزنا (اللّقيط)، ويُشجّعَ أمَّهُ على عدم التّخلّي عن وليدِها عندَ أبوابِ المساجدِ والكنائس، أو قربَ حاوياتِ القمامةِ أو في المنتزهاتِ العامّةِ أو أماكن أخرى؟
وماذا لو فعلتْ حقًّا، ولقيَ هذا القانونُ تجاوبًا كبيرًا من هذه الأمّهات، فهل يَقبلُ المجتمعُ بحقيقةِ هذه المرأةِ وبابنِها، فيتلقّفُهما بالرّحمة والمودّة؟ أم أنّهما سيخضعانِ معًا للذّلّ والمهانة، وينتهي بهما المطافُ إلى الانتحار أو إلى الشّارع، أو إلى الانتقام بأشكالٍ مختلفة، أو إلى الاستغلالِ بشتّى الخدعِ والحِيل؟
ماذا يُدعى اللّقطاءُ في أوراقِهم الثّبوتيّةِ إن لم يُنسَبوا إلى أمّهاتِهم؟ وعلى فرْض أن تبنّاهم فاعلو خير، فهل تتغيّرُ النّظرةُ تجاهَهم، ويحصلونَ على كاملِ حقوقِ البنوّة لاحقًا؟ أم أنّ الأمورَ ستنقلب عليهم بمجرّد أن يخرجوا مِن كؤوس أزهارِ الطّفولةِ، ليدوسَهم المجتمعُ المُجحِفُ بالخذلانِ والنّبذِ والتّعييرِ والمقاطعةِ والمطاردة؟
ما هي الأضرارُ النّفسيّةُ الحاضرةُ واللاّحقةُ بهؤلاءِ اللّقطاءِ الضّحايا، وأيُّ مستقبلٍ نتوخّاه منهم ولهم، وهم يعيشونَ الماضي والحاضرَ مظلومين ومنبوذين اجتماعيًّا، ويحملونَ في حنايا أرواحِهم معنويّاتٍ سلبيّةً قاتمة؟
هل مشكلةُ هذهِ الفئة مِن الضّحايا اللقطاءِ تقتصرُ على نسبِ الطّفلِ إلى أمِّهِ وإلى اسمٍ وهميٍّ للوالد؟ أم أنّ جذورَ المشكلةِ أعمقُ مِن كنيةٍ أو انتسابٍ، وأنّ الحلّ يكمنُ في احتضانِ هذه الأسَرِ المشرذمةِ والخارجةِ عن سياقِ المجتمع، وإرجاعِها إلى بستانِ الإنسانيّةِ واحتوائِها، من أجل الحدِّ مِن تفاقم واتّساع سلسلةِ هذهِ المآسي البشريّةِ مستقبلا؟ وماذا عن أطفالٍ صغارٍ تاهوا في الشّوارع وفقدوا أسَرَهم، ولم تستدلّ الجهاتُ المختصّةُ إلى أسرِهم الحقيقيّة؟ وكيف ينتهي الحالُ بهذه الفئةِ الأخرى، وتحتَ طائلةِ أيّة مسمّياتٍ يقعون؟ مشرّدون؟ تائهون؟ ضائعون؟ أبناء شوارع؟