الدليل الشامل للحج والعمرة
يقول الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله تعالى عن الطواف بالبيت الحرام (وأما طواف الحجاج حول الكعبة البيت الحرام فهو تشبه منهم بالملائكة الحافين بعرش الله، الطائفين به المسبحين حوله، لا يفترون، وفي هذا من سمو الروح ما لا يصفه الواصفون، ومن مراقبة الله وسد الجوعة الروحية في المسلم إلى ربه المنعم ما لا يقدر أحد قدره) (۲).
والطواف بالبيت الحرام يحرك في قلب الحاج والمعتمر معاني عظيمة، منها:
ومحبة الله - أيضًا من أقوى محركات القلوب إلى الله جل وعلا: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقررًا هذا المعنى: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها، لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة) (7) .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهو مشهد الذل والانكسار، والخضوع، والافتقار) للرب جل جلاله، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقارًا تامًا إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرَة خاصة لا يشبهها شيء - إلى أن قال رحمه الله - فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور وذرة من هذا ونَفَسٌ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله سبحانه : قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة؛ فهو ناكس الرأس بين يدي ربه؛ لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله .
قيل لبعض العارفين أيسجد القلب؟ قال: نعم سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، فهذا سجود القلب.فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه. وإذا سجد القلب الله - هذه السجدة العظمى - سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذل العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقا لربه، خاضعا له، ذليلاً مستعطفا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه، فليس له هم غير استرضائه واستعطافه، لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه، ومحبته له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه، وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره)(8).
وهذا الذكر يشمل ذِكْرَ الثناء والتمجيد الله جل وعلا، ويشمل ذكر الدعاء والاستغفار وقد بين جل وعلا كيفية ذكر الثناء والتمجيد في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ وبين كذلك كيفية ذكر الدعاء والاستغفار في قوله: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ .
وذكُرُ الثناء له روحان وأدب، فروحاه هما التضرع والخوف والأدب هو (دون الجهر في القول فعلى قدر التضرع والخوف في قلب الذاكر وقيامه بأدبه يكون أثره عليه.
وذِكْرُ الدعاء له روح وأدب، فروحه التضرع وأدبه الإخفاء لا جهرًا وعلانية يخشى منه الرياء، فعلى قدر التضرع في قلب الداعي، وقيامه بأدبه تكون إجابة دعائه.
وفي نهاية هذا الموضوع ثمة أمر يجدر الإشارة إليه؛ ليعطي الطواف بالبيت أكله بإذن ربه، وقد ينعت ثماره وطابت ظلاله، ألا وهو التهيؤ لهذا المقام العظيم من جانب، وحفظ القلب من الخواطر والشواغل من جانب آخر خاصة أثناء الطواف.
فحب الشهوات مرض قلبي، يأز البصر للنظر المحرم، ومراقبة الله جل وعلا في قلب العبد تدعوه إلى الكف عن النظر إلى ما حرم الله، فعلى قدر مراقبة الله جل وعلا في قلب العبد تنطفئ شهوته، وعلى قدر قوة مرض القلب بالشهوة تضعف مراقبة الله جل وعلا في القلب.
وغض البصر عبادة من العبادات التي من لم يرب قلبه عليها، ويروض بصره بالكف عن النظر إلى المحرمات قبل الحج والعمرة، سواء كانت في القنوات الفضائية أو الشبكة العنكبوتية أو الأسواق أو غيرها؛ فإنه قد لا يستطيع غض بصره إذا جاء لأشرف البقاع وأفضل المواطن عند بيت الله - وقل ذلك في سائر المناسك؛ لأن بصره الذي كان يطلقه في السر والعلن إلى ما حرم الله جل وعلا؛ قد يخونه في أطهر البقاع ، فلا يستطيع كف بصره لأنه لم يروضه على ذلك من قبل.
وهذا الأمر يوقع العبد في أمرين عظيمين:
إن هذا النظر المحرم له أثر في تكدر قلب الحاج والمعتمر وضعف خشوعه و فرحه و سروره، وطمأنينته بقدر ما قارف بصره من معصية.
فعلى الحاج والمعتمر أن يحفظ قلبه عما يشغله عن ربه جل وعلا. كما ينبغي للحاج والمعتمر عند الطواف أو السعي أن لا يرفع صوته بالذكر والدعاء، فإن هذا يخالف آدابهما، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، وقوله:﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ *[الأعراف: ٥٥].
المراجع
- (السنن الكبرى للبيهقي (٧٤/٥) وقال ابن كثير في السيرة النبوية (٣١٧/٤) وهذا إسناد جيد.
- (الحج أحكامه – أسراره - منافعه للشيخ عبد الرحمن محمد الدوسري، ص (٧٦).
- نقلاً عن الشوق والحنين إلى الحرمين تأليف محمد بن موسى الشريف ص.(٣٣-٣٤)
- (بدائع الفوائد) (٢ / ٤٦١)، طبعة دار عالم الفوائد.
- رواه البخاري رقم (١٣٥٨) ومسلم رقم (٢٦٥٨).
- (مجموع الفتاوى) (١٣٤/١٠).
- (مجموع الفتاوى) (٩٥/١).
- (مدارج السالكين) (٧٣٥/١).
- رواه أبو داود رقم (۱۸۸۸)، والترمذي رقم (۹۰۲) وقال حسن صحيح وصححه ابن خزيمة رقم (۲۸۸۲ ، ۲۹۷۰)، وحسنه الأرناؤوط في جامع الأصول رقم (١٥٠٥).
- سأذكر إن شاء الله تعالى (الدعاء) في موضوع (يوم عرفة) ص (۱۳۲)، وفي موضع المبيت بمزدلفة) ص،(۱۲۳)أعمال و(الذكر) في موضوع المبيت بمزدا القلوب بأوسع من هذا، فليرجع إليهما القارئ الكريم لتتم الفائدة بتوفيق الله.
- يجب على المرأة أن تغطي وجهها حال إحرامها عند وجود الرجال، وقد سبق الحديث عن ذلك في (محظورات الإحرام الخاصة بالمرأة ص (٦٧). (۳) ( منير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي (٤٠٧/١) طبعة دار الراية.
- رواه البخاري رقم (۲۹۹۲)، ومسلم رقم (٢٧٠٤).
- (فتح الباري) (١٣٥/٦).