وعن عاصم بن سليمان : (قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى ذلك من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَابِرِ الله﴾ (2).
ولكي نستشعر حال أمنا هاجر مع ابنها إسماعيل عليهما الصلاة والسلام حين أتى بهما أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى مكة، يحسن ذكر قصتهما لأخذ الفوائد والعبر منها.
فينبغي لمن يسعى بين الصفا والمروة أن يستشعر أموراً عدة منها:
(1) أن السعي بين الصفا والمروة عبادة يقتدي بها الساعي بالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في ذلك، فهي من مناسك أبينا إبراهيم عليه السلام، وأكدها النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، وليس المقصود من قول النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أمنا هاجر عليها السلام: (فذلك سعي لما ذكر سعي الناس بينهما)؛ أننا نسعى بين الصفا والمروة لمجرد سعيها عليها السلام، ولكنها كانت هي أول من فعل ذلك، ثم شرع الله جل وعلا السعي بين الصفا والمروة لحكمة أرادها جل وعلا لعل منها ذكر أمنا هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام وما حصل في قصتهما من عبر ومواعظ.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله تعالى: (ليس سعي المسلمين بين الصفا والمروة مجرد ذكرى لحادثة تاريخية، وإنما هو حكم شرعي قديم من ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، تلك الملة الحنيفية التي جاء بها محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، فيجب على الساعي بينهما أن يقصد بسعيه عبادة الله امتثالاً لقوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَابِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: ١٥٨]، فإن الدين العام يتعلق بقصد القلب، ثم لا بد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل ، ولكنه يستشعر الحكمة أو ما عرف من بعضها ليحصل له التأثر في نواحي سلوكه، فيكتسب من سعيه النشاط في أعماله الدينية والدنيوية بلا كلل ولا فتور، متطلعا إلى لطف الله ورحمته، واثقـا بـه معتمدًا عليه، قائما بحقيقة التوكل التي قامت بها أم إسماعيل، معالجـا أقدار الله بأقداره الأخرى، كما عالجتها أم إسماعيل، مميزا بين حقيقة التوكل الذي قامت به أمه وبين طريقة اليأس والقنوط التي رفضتها من الأساس كما قدمنا ذلك) (6).
(2) للساعي بين الصفا والمروة أن يتذكر أباه إبراهيم عليه السلام فيتخذه قدوة حسنة، وذلك بتسليمه التام الله جل وعلا حيث أمره الله تبارك وتعالى أن يأخذ زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل لمكة ويضعهما بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم ويتركهما وحدهما هنالك، لا أنيس ولا معين، ولا طعام ولا شراب إلا جراب فيه تمر، وسقاء فيه ماء، عما قليل سينتهي التمر ، وينفد الماء، فسلم ولم يتردد طرفة عين.
فلا تعجب من هذا الإمام العظيم عليه الصلاة والسلام إذ هو إمام التسليم وقدوة المسلمين فإنه عليه الصلاة والسلام منذ بداية أمره حتى لقي ربه وهو يتقلب من تسليم في تسليم.
فبداية أمره ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمَ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: ١٣١ ] ، ولما رمي بالمنجنيق سلم أمره الله جل وعلا ولم يعترض على قدر الله، فجاء الفرج ﴿ قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] ، ثم هاجر إلى الله تاركًا عشيرته وذويه مع زوجه ساره وابن أخيه لوط عليهم الصلاة والسلام، فآواه الله جل وعلا إلى الأرض التي بارك فيها.
وأمره بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام بيده فسلم لأمر الله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿۱۰۳﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿۱۰۴﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿۱۰۵﴾ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿۱۰۶﴾ [الصافات: ١٠٣-١٠٥].
(3) للساعي بين الصفا والمروة أن يتذكر حقيقة التوكل الذي تمثلته أمنا هاجر عليها السلام لما تركها أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي ورضيعها قالت له: (يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له : الله أمرك بذلك، قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا).
ورغم هذا التوكل العظيم الذي هو أثبت من الجبال الراسيات لم تترك الأسباب بل سعت بين الصفا والمروة مرارًا طلبًا للماء أو من يساعدها ورضيعها، فكان الفرج قريباً.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى التوكل: (فالتوكل: محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله، وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله، وأعظم دواعيه.
فإذا تحقق ذلك علا ومعرفة، وباشر قلبه حالاً لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق ،وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده ، لا بيد غيره) (7) .
(4) للساعي بين الصفا والمروة أن يتذكر حال أمنا هاجر عليها السلام وما فيه من بلاء ومحنة، فهي ورضيعها وحدهما بواد غير ذي زرع، وقد نفد ماؤها وجفَّ ضرعها، وهي ترى رضيعها يتلوى بين يديها من الجوع فتخشى عليه من الموت، ورغم هذا كله لم يدخل اليأس إلى قلبها، بل كانت صابرة متوكلة على ربها، محسنة الظن به جل وعلا أنه لا يضيعهم، ولذا سعت بين الصفا والمروة متوكلة على ربها عاملة بالأسباب لعلها تجد فرجًا مما هي فيه، فسعت سبعة أشواط، ورغم ذلك لم يدخل اليأس إلى قلبها، ولو سعت مرة أو مرتين لكان لها عذر ، ولكنها في كل شوط يتجدد توكلها وحسن ظنها بربهــا جــل وعــلا؛ لأنها تعلم أن اليأس والقنوط من رحمة الله مخالف لصدق الرجاء بالله وصدق التوكل عليه وحسن الظن به .
وهكذا المؤمن يجب عليه أن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: ﴿ إِنَّهُ لَا يَأْيْتَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ﴾ [يوسف: ۸۷].
قال ابن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى عن اليأس مستدلاً بهذه الآية: (عَدُّ هذا كبيرةً هو ما أطبقوا عليه، وهو ظاهر، لما فيه من الوعيد الشديد) (8).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)(9). ربها - إلى أن قال رحمه الله تعالى فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة، ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكر أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يضيعه ولا يخيب دعاءه وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح) (10) .
فالافتقار إلى الله جل وعلا من أعمال القلوب، وله منزلة عالية ودرجة رفيعة في الدين؛ إذ هو روح الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فأعمال وأقوال لا روح لها هي موات لا نفع فيها.
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى حين أوصى أحد إخوانه: (اعلم أن من هو في البحر على اللوح ليس بأحوج إلى الله وإلى لطفه ممن هو في بيته بين أهله وماله، فإذا حققت هذا في قلبك فاعتمد على الله اعتماد الغريق الذي لا يعلم له سبب نجاة غير الله ) (11).
ومن هذا المعنى الدقيق لمنزلة الافتقار إلى الله في الدين، ننظر إلى منزلته من وجهين:
وعلى هذا فتفاوت الناس في العبودية لله جل وعلا على حسب تفاوتهم في تحقيق معاني الافتقار إلى الله جل وعلا.
ثانيًا: أن الافتقار إلى الله جل وعلا هو روح أنواع العبادة وبقدره في قلب العبد يكون أثرها عليه في أمور دينه ودنياه. يقول الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان حفظه الله: (والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه ونفعها له في الدنيا والآخرة إلى أن قال حفظه الله - إن هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سر حياته وأساس إقباله على ربه سبحانه وتعالى، فالافتقار حاد يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة) (13).
ويعرف ابن القيم رحمه الله الافتقار الحقيقي إلى الله جل وعلا قائلاً: (فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد - في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة- فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه.
فالافتقار إلى الله جل وعلا هو أن يشهد العبد ويشعر شهودًا وشعورًا حقيقيًا يتبعه سلوك عملي بأن لا حول له ولا قوة إلا بالله وهذا يعني عدم اعتماد العبد أو تعلقه بشيء من الدنيا أو أهلها حتى نفسه التي بين جنبيه؛ وذلك بتجرده الكامل عن كل شيء سوى الله جل وعلا، فهو فقير إلى الله غنى به عمن سواه.
مراجع
- رواه البخاري رقم (١٦٤٣).
- رواه البخاري رقم (٤٤٩٦).
- (مجموع الفتاوى) للشيخ محمد بن إبراهيم (٢٤٥/٥)
- المنطق: ما يُشد به الوسط، والمعنى: (فاتخذت هاجر منطقا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة) انظر (فتح الباري (٤٠٠/٦).
- رواه البخاري رقم (٣٣٦٤).
- (الحج أحكامه - أسراره منافعه) ص (۷۹-۸۰).
- (مدارج السالكين) (۳۹۳/۲).
- (الزواجر عن اقتراف الكبائر) ص (١١٤).
- رواه عبد الرزاق في مصنفه رقم (۱۹۷۰۱).
- ((أضواء البيان) (٥ / ٣٤٣) طبعة دار عالم الفوائد.
- (الوصية المباركة) لابن قدامة، ص (۷۷).
- (مدارج السالكين) (٢٨٦/٣).
- (الافتقار إلى الله لُبُّ (العبودية تأليف: أحمد بن عبد الرحمن الصويان، ص (١٤، ١٥).
- (مدارج السالكين) (۳/ ۲۸۸).