د. فـريد الأنصاري
كل أمة تستمد أخلاقها من قيمها، وتنبع القيم من عقيدتها..
وفساد الأخلاق يجعل الأمة على خطر عظيم، ولكن عندما يصل النخر إلى قيمها؛ فإنها تكون على شفا هاوية..
وقد كانت الحرب على الأمة الإسلامية في هذا المجال طيلة قرن كامل: حرباً أخلاقية، كان الناس يفسدون وينحرفون، ولكنهم في قرارة أنفسهم كانوا يشعرون بوخز الضمير الديني، كانوا يحسون أنهم يتجاوزون خطوطاً حمراء وثوابت عالية، لكن في العقدين الأخيرين حدثت تطورات خطرة؛ فقد تغير سمت الحرب وتغير اسمها، ولم يعد أعداء الأمة يرضون بانحراف الظاهر مع إنكار ـ ولو يسير ـ في المجتمع أو القلب، وفرق كبير بين مجتمع منحرف، ومجتمع إباحي، وفي إطار سعيهم إلى إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية، ونقلها من حالة الانحراف إلى حالة الإباحية؛ كانت حرب القيم..
فقد أصبحت القيم في وضع يُرثى له من الاختلال والاضطراب، خاصة مع تصادم الخطابين الإسلامي والعلماني، ويصف بعض المحللين الحالة الراهنة بـ مرحلة «تشويه الوعي»، وهذه الوضعية القيمية المختلة؛ يراد تطويرها للوصول بها إلى مرحلة «تغييب الوعي»، حيث تحل منظومة قيمية علمانية متكاملة محل المنظومة المختلة القائمة.. فهل يفلح كيدهم؟
سيماء المرأة في حرب القيم بين النفس والصورة
د. فـريد الأنصاري
◄ مقدمة:
والسِّيمَاءُ في معاجم اللغة: هي العلامة، أو الرمز الدال على معنى مقصود؛ لربط تواصل ما. فهي إرسالية إشارية للتخاطب بين جهتين أو أكثر، فلا صدفة فيها ولا اعتباط(1).
واستعمالنا لهذا المصطلح في مجال القيم المتعلقة بالمرأة، والمتدافعة في معركة الحضارة؛ إنما هو لمحاولة الكشف عما ترمز إليه المرأة في الإسلام؛ نفساً وصورةً. وما تكون به أو لا تكون، في زمان (العولمة). فأما (نفساً) فباعتبارها (أنثى الإنسان) من الناحية الوجودية، وأما (صورةً) فباعتبارها هيأة خِلْقِيَّة، ذات تجليات مظهرية خاصة، وما حلاها ـ لذلك ـ الإسلام به من لباس، تتحقق إسلاميته بشروطه ومقاصده الشرعية.
وما معنى ذلك كله (النفس والصورة) من الناحية السيميائية، وما دلالته التعبيرية من الناحية التعبدية؟ إننا ننطلق من مبدأ قرآني عظيم: وهو أن لا شيء من موجودات هذا الكون الفسيح إلا له دلالة سيميائية، ومعنى رمزي لوجوده، وهو مسمى (حكمته) الخِلقية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 - 18]. فما خلق الله شيئاً، وما جعله، ولا شرعه؛ إلا لحكمة، هي مغزى وجوده، أو جَعْلِه، أو تشريعه. ومن هنا كان من أسماء الله الحسنى اسمه ـ تعالى ـ: (الحكيم). فهو ـ سبحانه ـ (حكيم) خَلْقاً وتشريعاً. فإرادته الخلقية التكوينية، وإرادته التشريعية التكليفية؛ كلتاهما لا تتصرف إلا بحكمة بالغة. فخَلْق الأنثى على هيئتها كان بإرادته التكوينية، وسترها ـ تكليفاً بحدود معلومة من اللباس ـ كان بإرادته التشريعية. وكل ذلك من حكمة الخالق ـ جل وعلا ـ، وجماع ذلك كله أنه سيماء ربانية لحكمة بالغة.
إن منطلق البحث السيميائي في اللباس الإسلامي، ونتيجته أيضاً، كلاهما مرتبط بأصول العقيدة أساساً! سواء تعلق ذلك بالرجال أو بالنساء على السواء، لكن لكل منهما سيماؤه الخاصة. وغلط مَنْ يحصر ذلك في مجال التشريع فقط!
ومن هنا يتبين مدى الخطر الذي تؤدي إليه (حركة التعري) من تدمير عقدي للإسلام! كما سترى بحول الله. إن واقع الأمة اليوم، في هذا المقتل الجوهري على جانب من الخطر عظيم. فلقد رأينا أن قضية اللباس بما ترمز إليه من دلالات سيميائية؛ هي حرب حضارية تُشن على الإسلام؛ لتدمير مواقعه الوجدانية في بنية التدين الاجتماعي. إن ذلك يعني سحب البساط من تحت كل أشكال العمل الديني التجديدي في البلاد الإسلامية، وجعله يضرب في الفراغ سدى!
إن هذا الخطر الخلقي الداهم ليس له علاقة بتفسيق الشباب فقط، ولكنه مدمر لبنية التدين كلها! إنه استراتيجية عالمية خبيثة لغزو العالم الإسلامي على مستويات متعددة، واحتلال الوجدان الإنساني فيه، وتدمير شخصيته على المستويين النفسي والاجتماعي معاً! وذلك أخطر أنواع الاحتلال، وأشد وجوه الاستخراب!
وبناء على ما سبق؛ نقسم مقالنا هذا ـ كما هو عنوانه ـ إلى قسمين: الأول يتعلق بسيماء النفس، والثاني يتعلق بسيماء الصورة. وبيان ذلك هو كما يلي:
القسم الأول: سيماء النفس لدى المرأة في الإسلام:
لقد جاء هذا التكليف في سياق خطاب كوني، وُجِّهَ للسماوات والأرض وما بينهما، فتَصَدَّر الإنسان بما فطر عليه من مؤهلات؛ ليكون إمام العابدين لله الواحد القهار، وليكون ســيد السائرين إليه ـ تعالى ـ في الأرض وفي السماء. وليس بعيداً عن هذا القصد أمر الله ـ تعالى ـ ملائكته بالسجود لآدم، أول الخليقة من النفس الإنسانية، وهو يحمل في صلبه ذريته ذكراناً وإناثاً.
وأما ما خالفت المرأة الرجل فيه من أحكام؛ فذلك راجع إلى الطبيعة التكاملية بين الذكورة والأنوثة، وليس إلى تنقيص خلقي تكويني في طبيعتها. فقد ينقص الرجل في شيء لتكمله المرأة، وقد تنقص المرأة في شيء ليكمله الرجل؛ سعياً لتكوين الحاجة الفطرية الطبيعية بينهما، ورغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة(2).
ذلك سر عجيب من أسرار اللباس في القرآن، فتدبر!
- القيم التربوية لسيماء النفس لدى المرأة:
أولاً: قيم جمالية الأنوثة:
الأنوثة هي سر الجاذبية الخِلْقية في المرأة. والأنوثة في الإسلام مفهوم تكاملي؛ ومن هنا كانت جماليته؛ أي أن به يُحَصِّل الرجل كمالَه، من حيث هو جنس بشري، وبدونه فهو ناقص أبداً. وكذلك المرأة في المقابل لا تكون إلا بالرجولة التي على الرجل أن يحفظها ويرعاها لها! و (الجمالية التكاملية) هي المذكورة في قوله ـ تعالى ـ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛ ومن هنا وجدنا الإسلام ينهى بشدة عن (تَرَجُّلِ المرأة) أي تشبهها بالرجل؛ لما فيه من فقدان الهوية الفطرية للتكاملية الإنسانية، ثم لما فيه من إخلال بالتوازن الجنسي، والجمالي في الخلق. فالأنوثة حقيقة وجودية ضرورية لاستمرار النسل من ناحية، وضرورة وجودية للشعور بمعنى الحياة لدى الجنسين؛ بما يكون من إنتاج للوظيفة البشرية في بناء الأسرة. ومن ثَمَّ؛ من وظيفة عمرانية في قيام الحضارات، واستمرار التاريخ إلى ما شاء الله. فكان الترجل النسوي لذلك تهديداً للوجود الإنساني وخرماً لتوازنه!
وقد وردت أحاديث عن الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخصوص؛ من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المُتَرَجِّلَةُ ـ المتشبهة بالرجال ـ، والدَّيُّوثُ! وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى»(3). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الدَّيُّوثُ، والرَّجُلَةُ من النساء، ومدمن الخمر»(4). وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء!»(5).
والترجل في المرأة قد يكون شكلياً كما باللباس، أو طريقة الكلام، أو المشي، أو نحو ذلك من الشكليات الظاهرة، وقد يكون بدنياً بتغيير خلق الله في نفسها، بالجراحات الطبية المحرمة التي تؤثر في طبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الوجودية. وكل ذلك حرام بنص الأحاديث ومقاصد الشريعة. ومن هنا حرم الإسلام حتى مجرد التشبه بالرجل بله الترجل، كما حرم على الرجل التشبه بالنساء سواء! وذلك كما في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لَعَنَ اللهُ المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء!»(6).
ثانياً: قيم جمالية الحياء والتخفي:
والحياء عموماً مبدأ إسلامي كلي، عام في كل شيء، سواء كان في الأقوال، أو في الأفعال، أو في الألبسة، أو في التصرفات وسائر الحركات. وهو معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الجامع المانع: «ما كان الفحش في شيء قط إلا شَانَه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زَانَه»(8). كما أنه كان عاماً في كل إنسان، من حيث هو مسلم يحمل عقيدة معينة، وانتماء حضارياً متميزاً. ولذلك قرنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان في قوله: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر»(9)، ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبَذَاءُ من الجفاء، والجفاء في النار»(10).
لقد قصدت بإيراد هذه النصوص أن أبين أن الحياء مقصد من أهم المقاصد الشرعية التي تداني ما سطره العلماء في مقاصد الشريعة. وتَتَبُّعُ هذا المعنى بالمنهج الاستقرائي في النصوص الشرعية؛ يجعل منه كلياً من أهم الكليات الخلقية في الإسلام.
إلا أن المرأة في الشريعة الإسلامية اختصت منه بلطائف ومعان وأحكام ليست على الرجل، ضبطاً وتشريعاً. فكثيرة هي الأعمال التي أنيطت بالمرأة دون الرجل؛ رعياً لمقصد الحياء! فكل ما أوجب عليها التستر الجسمي أو الحركي أو الصوتي؛ فهو راجع إلى هذا المعنى.
فأما التستر الجسمي فهو ما فرض الله عليها من اللباس الإسلامي، في محكم القرآن العظيم، من قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وما فصّلته السنة النبوية في ذلك، من جزئيات بيانية توضيحية، من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله»(12). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله ـ عز وجل ـ عنها ستره»(13).
وأما التستر الصوتي فهو متعلق بتلحين أنغامها الصوتية خاصة، وما في معناه من تغنج صوتي، وليس متعلقاً بمطلق الصوت طبعاً! وذلك كمنعها من الأذان، وتجويد القرآن بمحضر الرجال الأجانب عنها. ومن باب أولى وأحرى منعها من الغناء للرجال، وتلحين الصوت عند الكلام العام؛ قصد التأثير الجنسي على الرجل من غير الزوج! وذلك كله إنما هو مقدمات الزنى. ويجمع هذه المعاني قول الله ـ تعالى ـ الصريح: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفًا} [الأحزاب: 32].
وعليه؛ فقد كان التخفي في الإسلام مطلباً تعبدياً للمرأة في كل شيء؛ حتى في صلاتها! وبهذا المنطق يجب فهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل صلاتها في بيتها أفضل ـ في الأجر والمثوبة ـ من صلاتها في المسجد، على عكس ما سنَّه للرجل تماماً. وذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها!»(14) وأوضح منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد»(15).
كل هذا التخفي في العادات والعبادات؛ إنما هو لحفظ جمالية الحياء. ذلك المقصد الذي يشكل سراً من أسرار الجمال في الأنثى!
وبهذه النصوص والمقاصد؛ يدرك المتبصر مقدار المخالفة الشرعية، في جمالية الحياء والتخفي، بين مثال المرأة المسلمة وبين حالها في واقعها المعاصر! فانظر ـ رحمك الله ـ كم هي بذيئة حالة الاستعراض التي تمارسها المرأة اليوم على الملأ، في الشوارع والأماكن العامة، تقليداً لعادات اليهود والنصارى! بل لقد وصل الجهل بمثل هـذه الحقائـق إلى أن صـار كثير ممـن ينتسبن إلى التدين والعفاف؛ لا يجدن حرجاً في الخروج مع أزواجهن، مشياً على هيأة من التغنج الفاضح، والتلاصق المخجل! خاصة الأزواج الحديثي العهد بالزواج. وكأن كونهما مرتبطين بعَقد شرعي كاف لتسويغ حالة الاستهتار الخلقي التي يمارسانها على الملأ، من التخاصر والتمايل. فما بالك بمن دونهما من الساقطين والساقطات! لقد فقد الناس الإحساس بالحياء! وفسدت أذواقهم إلا قليلاً!
ثالثاً: قيم جمالية الأمومة:
يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من كتاب وسنة، هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفهومات تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية والوحشية!
ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أباً) بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛ نسباً وإرثاً! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.
والأصل في ذلك أن الله ـ تعالى ـ جعل الرحم التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛ مَعْنىً تعبدياً لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع العلاقات بين الفروع والأصول، رأسياً أو أفقياً. بل جعل صلتها عملاً تعبدياً كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة إلى الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في القرآن بتقـوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: أنا خلقتُ الرحمَ وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلتُه، ومن قطعها قطعتُه، ومن بتَّهَا بتَتُّه!»(17)، ومثله قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلتُه، ومن قطعك قطعتُه!»(18)، والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان. وفي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله!»(19)، فتجاوز مفهوم (الرحم) أن يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع رأسياً وأفقياً. وهذا سـر القوة والصمود في بقـاء الأسـرة ـ بالمعنى الإسلامي ـ عبر التاريخ، رغم كل أشكال التذويب الثقافي الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!
وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي، يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات، يقول: «والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية ـ التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسياً وحضارياً ـ يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا... فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد.
وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي ...، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق، والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها! بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية!»(20).
ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعاً مركزياً، لا يدانيها فيه أحد، ولذلك قال الله ـ تبارك وتعالى ـ في القرآن العظيم: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ} [لقمان: 14]، فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معاً؛ إلا أنه خص الأم بذكر وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه الأب. وهو صريح قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو هـريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك»(21).
القسم الثاني: المرأة وسيماء الصورة في حرب القيم:
الصورة سيماء حضارية:
إن العري في الغرب اليوم، عري الرجل والمرأة كليهما، صورة تعبر عن فلسفة حضارية! فأوروبا وسليلتاها: أمريكا وأستراليا، تختزن مضموناً وثنياً قديماً، يرجع إلى العهد اليوناني القديم. لقد انهزمت المسيحية يوم تبناها قسطنطين إمبراطور روما، فانتقلت من الشرق مهدها الأول إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب لم يستطع أن يتخلص من فكره الوثني القديم. فبدل أن تتمسح أوروبا توثنت المسيحية! أو بدل أن (تتنصر روما ترومت النصرانية) كما قال بعض مؤرخي الملل والنحل من المسلمين. وهذه أعظم مصيبة في تاريخ الديانة المسيحية! لقد فقدت طبيعتها الروحية إلى الأبد! قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له (قسطنطين)، فدخل في دين النصرانية. قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام؛ من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح (دين قسطنطين)!»(22).
إن الفنان اليوناني القديم الذي لا يجد حرجاً في رسم أو نحت الصورة عارية تماماً، مع العناية الشديدة في نقش الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، في التماثيل والصور؛ إنما يستجيب لطبيعة الفلسفة الإغريقية القديمة. فكل ذلك له دلالة التفسير المادي للحياة، والتصوير الغرائزي للإنسان! وهو حس وثني غليظ، بمقتضاه عبد الإنسان الشهوات السلطانية والمالية والجنسية، سواء في عهد الفراعنة في مصر، أو في عهد اليونان القديم، حيث الآلهة هي مرجع التفكير، والاعتقاد الفلسفي والاجتماعي لدى الإنسان. ولذلك كان العهر جزءاً من فلسفة اليونان، وجزءاً من قيمهم الدينية. وقد فصّل العلامة المودودي في كتابه (الحجاب) هذا المعنى بما يكفي، لكنا نقتطف منه قوله ـ رحمه الله ـ: «وتبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، إلى حد جعل كبار فلاسفتهم، وعلماء الأخلاق عندهم؛ لا يرون في الزنى وارتكاب الفحشاء غضاضة، يلام المرء عليها ويعاب!... وانتشرت فيهم عبادة أفروديت «Aphrodite» التي كان من قصتها عندهم في الأساطير «Mythology» أنها خادنت ثلاثة آلهة، مع كونها زوجة إله خاص! وأيضاً كان من أخدانها رجل من عامة البشر، علاوة على تلك الآلهة. ومن بطنها تولد كيوبيد «Kupid» إله الحب! نتيجة اتصالها بذلك الخدن البشري!»(23).
إن هذا المضمون ـ مع الأسف ـ لم تستطع المسيحية في أوروبا أن تقضي عليه، وإنما تكيفت معه وتبنته؛ استجابة لمحاباة الإمبراطور من جهة، واستجابة للعرقية الغربية اليونانية القديمة من جهة أخرى. ولكن الذي حدث هو تحول الأوثان من صورة إلى صورة! فبدل أن تصور الآلهة اليونانية شرعت في تصوير الآلهة المسيحية! فظهرت صورة العــذراء وصـورة المــسيح عليه الســلام ـ زعموا ـ وصور القديسين! وأثقلت بها الكنائس في كل مكان! وصار للمسيحية تجل وثني مع الأسف! هو الذي تطور ليعري الصورة البشرية الحية في الغرب اليوم كاملة! فتوجهت العقلية الغربية إلى التعري في كل مجالات الحياة! ومن هنا شهد الغرب ثقافة العري التي طبعت أدبه وفنونه، ومن ثم صدرها إلينا مع المثقف العربي المصنوع على النمط الأوروبي!
ولذلك فليس عبثاً أن يتجه الفن الإسلامي في العمارة إلى التجريد بدل التجسيد! من خلال اعتماد الخط العربي في الزخرفة والتعبير، والأشكال الهندسية الانحنائية، المتكاتفة والمتعاطفة، نقوشاً وأسواراً وأزقة، كتعاطف المصلين في الصف خلف الإمام. ثم الأشكال التجريدية في الأعمال من صيام وقيام. كل ذلك لأن التجريد هو الفضاء الأقدر على التعبير عن عقيدة التوحيد.
الصورة سيماء إعلامية تجارية:
إن هناك شيئاً يمكن تسميته بعلم النفس التجـاري! لكنه (علم) ـ إن صحت العبارة ـ نشأ في بلاد لا تعرف معنى لمفهوم الحرام! بل إنما تفتقت عنه عبقرية الشيطان اليهودي أساساً؛ ولذلك فقد جاء يحمل كل خصائص الرأسمالية المتوحشة. فصار صناعةً تستغل كل شيء، وتضحي بأي شيء: الدين والأخلاق والأعراض والقيم الإنسانية جملة؛ من أجل الوصول إلى غاية واحدة: هي الربح! فكان أن وظف السيمياء الأكثر تأثيراً في نفسية المستهلك الشهواني، وهي: جسد الأنثى، في صورته الجنسية!
والصورة سيماء سياسية: وبنجاح السيماء التجارية في استغلال جسد المرأة بأبعاده الجنسية؛ انتقلت العدوى إلى مجال التدافع السياسي الصرف خاصة في الوطن العربي والإسلامي اليوم، حيث توظف الصورة العارية من خلال الأدب، والثقافة، والفن السينمائي، والمسرحي، والألبوم الغنائي، والموديل الفتوغرافي، وموضة الشارع المتحركة، حتى نمط العمل الإداري! كل ذلك لتدمير بنية التدين في المجتمعات الإسلامية، هذه البنية التي تعتبر خميرة ما يسمى (بالإسلام السياسي) باصطلاح أعدائه، أو (الصحوة الإسلامية)، أو (حركة تجديد الدين)، باصطلاح أبنائه. لقد استُغل السلاح النسوي استغلالاً خطراً، في إعادة صياغة الأسرة؛ وفق المقياس الأوروبي وقيمه الحضارية، ونقض أصول بناء الأسرة في القرآن بالتدريج. كل ذلك يحصل اليوم من خلال وسائل من أخطرها التطبيع على تداول الصورة العارية كموضة متحركة في بنية المجتمع العربي والإسلامي!(24)
والصورة سيماء قرآنية:
إن رمزية اللباس في الإسلام تنطلق مرجعيتها من قصة خلق آدم وزوجه حواء ـ عليهما السلام ـ، حيث كان لباس الجنة رمزاً للرضا الإلهي، وبمجرد ارتكابهما للخطيئة تحول ذلك إلى عري! فالعري هو رمز التمرد على الخالق. إنه إذن رمز الشيطان! قال ـ عز وجل ـ: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْـجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْـخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْـجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 117 - 122]. إن هذه الآيات تلخص قصة اللباس كيف بدأ في تاريخ الإنسان وفي تاريخ الدين كله. فآدم وزوجه ـ عليهما السلام ـ كانا على تمام النعمة في الجنة، أَكْلاً وشُرْباً ولباساً. فقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَعْرَى}؛ دال على أنه ـ عليه السلام ـ كان يتمتع بلباس الجنة هو وزوجه. قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: «فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن»(26). وقال ابن كثير في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}: «إنما قرن بين الجوع والعري؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر»(27). وقوله: {وَلا تَضْحَى}؛ أي لا تتعرض لحر الشمس. فهو في ظلالها وجمالها.
فصرح القرآن العظيم بعلة وسوسة الشيطان لآدم وزوجه؛ أنها الرغبة في تعريتهما التعرية التامة! حتى تظهر لهما سوءاتهما، فيريان ذلك من أنفسهما معاً! وليس أبعد في المنكر والخزي من أن يتعرى الإنسان، ويكشف عن عورته على ملأ الناس! إذن تمسخ طبيعته التي فطر عليها، من رتبة الإنسانية إلى دَرَك البهَمِيَّة، كما هي معظم شوارع هذا الزمان وتلفزيوناته! صحيح أن آدم وزوجه إنما كانا وحيدين في جنسهما آنذاك؛ إذ هما أول الخلق البشري. ولكن قصة آدم إنما كانت لوضع أصول التربية الفطرية للإنسان، والعهد إليه بميثاقها.
فالشيطان سعى قصداً إلى نقض هذه المقاصد، وتعرية الإنسان وتطبيعه على التعري، وخرق الحياء كقيمة إنسانية. ولذلك قال ـ عز وجل ـ في سورة الأعراف مبيناً: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْـخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَـمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْـجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف: 20 - 22].
ومن هنا كانت الآية البصيرة ـ وكل آيات القرآن بصائر ـ الآية التي تحكم منطق اللباس في الإسلام، وتوجهه، وتمنحه مضمونه المقاصدي بالشمول الكلي، تحيل تعليل فطرة اللباس وطبيعته الإسلامية على قصة آدم نفسها، لكن بوضوح أبين، ودلالة أقوى، وهي قوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 26 - 27].
ومن جمالية التعبير القرآني بهذه الآية البصيرة؛ أنه ـ تعالى ـ ذَكَر لباس الثياب، ثم كنَّى عنه بالريش؛ وذلك لما للطائر من جمال؛ إذ ينطلق بريشه محلقاً في الفضاء، أو مستقراً على الشجر، أو ماشياً على الأرض. وما أتعسه من طير فَقَدَ ريشه! أو نتفه مَنْ يعذبه به! ألا ذلك هو العذاب الأليم! وقرن ـ تعالى ـ هذا كله بلباس التقوى، وإنما القصد (بلباس التقوى) صلاح النفس، لا اللباس المادي الظاهر، ولكنه هنا سيق ليكون هو غاية اللباس المادي في الإسلام، والمقصد الأساس من تشريعه، فإنما اللباس ما عبَّر عن ورع صاحبه وتقواه؛ ذكراً كان أم أنثى.
ومن ثَمَّ كان العهد الذي أخذه الله على الإنسان بعدم عبادة الشيطان؛ يعود بنا إلى قصة العري والعصيان الآدمي، وذلك قول الله ـ جل جلاله ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61]. فكان الالتزام باللباس نوعاً من الوفاء العَقَدي لعهد الله وعدم الإشراك به، كما كان التعري نوعاً من الشرك والوثنية! لما فيه من إبراز وتقديس للجسمانية على حساب الروحانية؛ ومن هنا كانت أحكام اللباس في الإسلام متأصلة في عقيدة التوحيد! وهذا معنى من ألطف ما يكون، وسر من أعجب أسرار القرآن.. فتدبر!
وفي هذا الفضاء أيضاً جاء تمييز الرجال بألبستهم وصورهم، صحيح أن الإسلام لم يفرض نموذجاً عربياً أو عجمياً للباس، ولكنه فرض قواعد يجب أن تُحترم؛ سواء كان اللباس عربياً أو عجمياً، وقد لبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللباس العجمي وأقره بين الصحابة، كالقَبَاطِي والجبة الرومية، وغير ذلك(28)؛ ما دامت تلك الألبسة لا تحمل دلالة دينية رمزية لغير المسلمين من ناحية، وما دامت من ناحية أخرى تستجيب لقواعد اللباس الرجالي في الإسلام.
فالأمر الوارد بإعفاء اللحية بصورة مخصوصة لا بأي صورة، وكذا الأمر بالتزام قواعد معينة عند كل لباس؛ كل ذلك يخدم هذه الأصول التشريعية والعقدية المنطلقة من قصة آدم، والساعية إلى تمييز الإنسان المسلم عن عالم الخطيئة والعصيان الشيطاني، الذي انحدرت إليه أمم المجوس وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. فقوله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً: «خالفوا المشركين! أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى!»(29)، وفي رواية لمسلم: «خالفوا المجوس»؛ ليس لتشكيل صورة قائمة على مجرد فن الديكور! كلا! بل هو لتمييز الصورة الإسلامية في سيميائها الحضارية، وانتمائها العقدي. إنها تعبير عن التبرؤ من النموذج الشيطاني الذي جر إليه إبليس اللعين الأمم الضالة لتغيير خلق الله، كما حكى عنه القرآن العظيم مفصلاً بشكل عجيب! قال ـ تعالى ـ: {إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثًا وَإن يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 117 - 119].
ومن ذلك حديث أبي أمامة قال: «خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: «يا معشر الأنصار، حمّروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب!» قال: فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب!» قلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يَتَخَفَّفُونَ ولا ينتعلون!(30) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب!» فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عَثَانِينَهُمْ (يعني: لحاهم) ويُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ (يعني: شواربهم)! قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم! وخالفوا أهل الكتاب!»(31).
وبهذا القصد نهى الرجال عن إسبال الثوب، وإرخائه إلى ما تحت الكعبين من الأقدام؛ لما كان يدل عليه من خيلاء وكبر في عادات العرب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار!»(32). وقال -صلى الله عليه وسلم- مبيناً علة ذلك: «مَنْ جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»(33). ولنكتف بهذه الإشارات فيما يتعلق بسيمياء اللباس لدى الرجل؛ حتى لا نخرج عن غرض هذا المبحث المتعلق بسيمياء المرأة على الخصوص. وإنما القصد أن نبين أن اللباس عموماً في الإسلام، سواء منه ما تعلق بالرجال، أو ما تعلق بالنساء، له دلالة سيميائية ترجع في رمزيتها إلى مقاصد دينية تعبدية، تضرب حقيقتها في عمق التصنيف الاعتقادي، وتتشكل صورتها في صلب الانتماء الحضاري، والتميز الثقافي.
العري كبيرة من الكبائر:
فمن هنا إذن؛ كان الوعيد النبوي شديداً بالنسبة للمتعريات من المسلمات، ففي هذا الإطار السيميائي، والسياق الحضاري؛ جاءت الأوامر القرآنية والنبوية بالتزام صورة معينة للباس لدى النساء. وأنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنكاراً رهيباً تعري المرأة. والعجيب أن ذلك الإنكار تعلق بصورة (كاريكاتورية) للباس المرأة؛ لم تكن قد ظهرت في زمانه -صلى الله عليه وسلم-، ولا عرفتها العرب. وإنما حدَّث عنها ـ عليه الصلاة والسلام ـ مطلاً على المستقبل من مشكاة النبوة، ومستبصراً للغيب، مما علمه الله. أي أنه كان يقرأ زماننا ويبصر عري نسائنا من قمة زمانه -صلى الله عليه وسلم-! فأنكر ذلك المستقبل الماضي في علـم الله، وحـذر من مجاراته والافتتان به؛ لِمَا عَلِم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من انتسابه الشيطاني، وتمرده على رب الكون! فرتب عليه وعيداً شديداً من عذاب الله! وتلك صفة كبائر الذنوب عموماً في الإسلام، والسياق قاطع بأن هذه منها! وقد اشتهر في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَهُمَا. قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»(34).
فهذا الحديث من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-، فقد وصف فيه ما لم يره بعين البصر، وإنما رآه بعين النبوة، مما سيكون في آخر الزمان وهو زماننا هذا. فكان وصفه العجيب كأدق ما يكون الوصف؛ لما عليه حال النساء اليوم، مما لم يسبق له مثيل في التاريخ! فهن فعلاً كما قال -صلى الله عليه وسلم- (كاسيات عاريات)؛ بمعنى أنهن يلبسن ما به يكون العري أشد! وهو شيء غريب فعلاً. ألا ترى أن نوع اللباس الأنثوي اليوم إنما هو لزيادة بيان تفاصيل العورة، ومواطن الفتنة من الجسم: خِرَقٌ رقيقة أو ناعمة تكشف وتشف، أو ترسم هيأة البدن على التمام والكمال، وتعري بعضه أو أغلبه تعرية تامة. فإذا المرأة في الشارع تسير عارية تماماً! إنها لو خرجت بلا ثوب مطلقاً لما فتنت كما تفتن الآن بقليل اللباس؛ مما يكون به عرض مواطن الفتنة في الجسم على أبين وجه، وعلى أدق توصيف! فأي شيطان هذا الذي يملي هندسة الشر على منتجي الموضة في العالم؟ ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (كاسيات عاريات!).
ثم إنهن بعد ذلك (مائلات مميلات)، ومعناه أنهن مائلات عن الصراط المستقيم أولاً، ثم هن مائلات في مشيتهن بالطرقات، يَسِرْنَ بنوع من الانحناء إلى شمال تارة، وإلى يمين تارة أخرى؛ إمعاناً في عرض أجسامهن العارية بأوضاع مختلفة، في المعرض المفتوح لأجساد النساء! ماذا بقي بعدُ من الكرامة لهؤلاء؟
وأما كونهن (مميلات) فهو أنهن يملن أعطافهن وأردافهن ـ إذا مشين ـ بتكسر ماجن، وتعهر فاضح. و (الإمالة) أيضاً هي أثر ذلك كله على قلوب الشباب خاصة، وقلوب الرجال عامة، من التأثير الشيطاني والغواية الإبليسية التي تميلهم عن الصراط المستقيم، وتخرجهم عن سبيل الهدى إلى سبل الضلال، وتخرجهم من النور الظلمات، أو من الظل إلى الحرور!
ثم هنّ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ»، ومعناه أن طريقة قص شعرهن، وشكل حلاقته؛ تجعل رؤوسهن أشبه ما تكون بأسنمة البُخْت المائلة. والبُخْت: جمع بُخْتِية، وهي الناقة. لكنها نوع خاص من الإبل، مُنَسَّلَةٌ من الجِمال العجمية. والأسْنِمَةُ: جمع سنام، وهو ذروة الناقة. وكثيراً ما تكون ذروة الناقة، أو الجمل؛ فعلاً مائلة إلى جانب معين، ثائرة الوبر، متناثرة الشعر، بشكل وحشي، أو قل (فوضوي) بالمعنى الفني المعاصر للكلمة! أليس النساء هنّ كذلك فعلاً؟ بلى والله! وبالضبط كما وصفهن النبيُّ! فَعُدَّ أنواع القَصَّات في حلاقة الموضة الجهنمية اليوم! لترى مدى صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الوصف الاستبصاري النبوي! عُدَّ إذن: القَصَّةَ المربَّعة! وقَصَّةَ الفرس! وقَصَّةَ الفتى! (للبنات طبعاً!) والقَصَّةَ الإيطالية! والقَصَّةَ الوحشية...! إلى آخر ما في جعبة إبليس من تحليقات شيطانية! ذلك هو والله! وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهنّ: (رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ)! وصدق نبي الله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا أضفت إلى هذا ما أخبر به ـ عليه الصلاة والسلام ـ في بداية هذا الحديث، وهو الصنف الأول من أهل النار، أي: (قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ!) رأيت ما يسمى في العصر الحديث بـ (قوات مكافحة الشغب)، ورأيت (جلادي السجون)، وشرطة الاختطافات والاستنطاقات القسرية، ورأيت كيف يحملون معهم هراواتهم وسياطهم، وسائر أدوات التعذيب الميكانيكية والكهربائية؛ لتحطيم جماجم المستضعفين، وتهشيم عظام المظلومين في كثير من بلاد العالمين! مما لم يدر بخلد شياطين العهد النبوي! إذا أضفت ذلك إلى ذلك؛ علمت دقة التصوير النبوي لمدى خطورة الانحراف الذي عليه المرأة المسلمة اليوم!
فاقرئي الحديث ـ بُنَيَّتي ـ مرة أخرى، وتدبري! أليس كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينظر إلى زماننا هذا بالضبط، وبدقة متناهية؟ أليس كان ينظر من مشكاة النبوة إلى غيب يبعد عنه -صلى الله عليه وسلم- بأزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان؟ بلى والله! وقطعاً ستصدق نذارته كما صدقت نبوته. وإنما نذارته هنا هي قوله عن الفريقين: إنهم جميعاً: (صنفان من أهل النار)، وأن النساء الكاسيات العاريات: (لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)! أي أنه كان يصف البعد الرهيب الذي يفصل بين هؤلاء النسوة وبين ريح الجنة؛ لِمَا هن هاويات فيه من دركات الجحيم الضاربة في أعماقها والعياذ بالله!
ولقد روي هذا المعنى بنبوءات أخرى عجيبة، في أحاديث صحيحة، تتحدث عن موديلات السيارات الفاخرة التي تركبها النساء العاريات! فأبصَرَ منها النبي -صلى الله عليه وسلم- لقطة فيها من التناقض السلوكي، والانفصام النفسي والاجتماعي؛ ما نراه اليوم عياناً! وهو ذهاب هؤلاء الكاسيات العاريات مع أزواجهن إلى المساجد للصلاة أحياناً! زعموا! وهو ما يقع خاصة يوم الجمعة، وأحياناً لا يذهبن للصلاة، وإنما يتبعن موكب العرسان، على عادة بعضهم في إدخال العريس إلى المسجد، في جوقة من الزغاريد والغناء، والعري الفاضح الماجن. وهذا أمر نشاهده اليوم في مصيف الأعراس، في بعض المساجد المغربية! وهو من أقبح البدع وأسوئها! اقرأ هذا الحديث النبوي العجيب، وانظر إلى تلك السيارات الموصوفة منذ أزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان! قال -صلى الله عليه وسلم-: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف! العنوهن فإنهنّ ملعونات! لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم! كما خدمتكم نساء الأمم من قبلكم»(35).
وروي بلفظ آخر هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المَياثِرِ(36)؛ حتى يأتوا أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات! لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمتهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم!»(37).
فالسِّتْرَ السِّــتْرَ بُنَيَّتي! فإنه ســـيماء الرحمن! قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ تعالى ـ حَيِيٌ سِتِّيرٌ، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر!»(38).