يونس بورنان - الجزائر
وراء كل مطبخ عظيم امرأة.. ووراء كل نكهة رمضان امرأة.. ووراء كل لمّة عائلية امرأة.. ليس مدحاً للمرأة بل حقيقة يكتشفها الرجال في رمضان.ويأتي ذلك عندما تكون الأمهات أو الزوجات أو الشقيقات منهمكات بشكل يومي في "معركة المطبخ" ولساعات معدودة، وهن يحضرن أكثر من طبق واحد لإرضاء الرجل، زوجاً كان أو ولداً أو حتى ضيفاً، يتبعنها بمعركة أخرى وهي غسل صحون الإفطار، والتحضير للسحور.
جهد استحق في الموروث الجزائري أن تكون له "عادة تكريمية راقية" يوم عيد الفطر لتلك "المرأة المحاربة في مطبخها" طوال 30 يوماً في المطبخ سميت "حق الملح"، عرفاناً بتعب المرأة خلال شهر رمضان لإفطار شهي "لا مجال فيه للخطأ ذوقاً أو تنوعاً" بالنسبة للرجل.
ورغم عدم تغير طباع المرأة الجزائرية أو دورها المحوري في الحياة اليومية لأهل بيتها، إلا أن هذه العادة باتت تقاوم الزوال، وسط دعوات لإعادتها كـ"أضعف الإيمان والأفعال" لشكر "ركيزة البيت" على ما قدمته من جهد بدني عظيم في رمضان، وإن كانت المرأة في العموم لا ترى في ذلك جميلاً، بل "حقاً وواجباً" على أهلها.
عادة منذ 500 عام
وتؤكد الدراسات الخاصة بالموروث التقليدي الجزائري، أن هذه العادة قديمة منذ 5 قرون بالجزائر، وانتقلت إلى كل من تونس والجزائر خلال فترة تواجد العثمانيين بهذه المنطقة العربية منذ القرن الـ16، وانتقلت بعد ذلك إلى المغرب.
وتشير تلك الدراسات إلى أن "حق الملح" عادة إسعاد الزوجة واعتراف بجميلها لزوجته صباح يوم عيد الفطر، تكون عبارة عن هدية يقدمها لزوجته، وتختلف طبيعة الهدية بين الحناء أو قطعة ذهبية توضع في كأس القهوة أو قطعة من القماش والتي تسمى في الموروث الجزائري بـ"محرمة الفتول".
و"حق الملح" مستمدة أصلا من التراث اللغوي لسكان المغرب العربي لاسيما الجزائر، إذ أن كلمة "الملح" تعني "العشرة" ويقال "أكل ملحي" والتي تعني بأن ذلك الشخص دخل منزل القائل وأكل من زاده، بينما يُقصد في معناها العميق أن "من أكل ملحك أصبح واحدا من أفراد العائلة وباتت تربطه بهم عشرة تشبه صلة الرحم".
و"حق الملح" يعني "رد الجميل بالجميل"، أي إنصاف المرأة بهدية في عيد الفطر على "الملح" أو "الأكلات" التي قدمتها لعائلتها طوال شهر رمضان.
الحناء.. أصل الهدية
"جازية" سيدة جزائرية من العاصمة، كشفت عن أصول هذه العادة في بلادها وطبيعة الهدية التي كانت سائدة في المجتمع الجزائري منذ القدم.
وأوضحت بأن تحول الهدية إلى "قطعة من الذهب" سواء كان خاتماً ذهبياً أو أقراطاً ذهبية دفعت الكثير من العائلات والأزواج تحديدا للاستغناء عن هذه العادة لغلاء أسعار الذهب في الجزائر وللظروف المعيشية المحدودة لكثير من الأسر الجزائرية.
وتحدثت السيدة "جازية" عن طقوس هذه العادة في الجزائر، وقالت إنها كانت "وفق أصول تحكم عادة حق الملح"، وكشفت عن أن هذه العادة قديمة جدا في عدد كبير من محافظات الجزائر بينها العاصمة.
وذكرت بأنه في القديم "كان رب العائلة يشتري علباً أو أكياساً من الحناء على حسب عدد النساء أو البنات في العائلة، ويقمن بعدها بوضعها في صحن من الفخار".
ونوهت بأن ذلك معناه "أن تلك الحناء تزيل تعب رمضان بالوقوف يوماً كاملا في المبطخ للطهي وغسل الأواني.
و"للحناء" في الموروث الشعبي الجزائري خصوصية كبيرة، إذ ترمز للفرح، ولا يزال الجزائريون يستعملونها في الأعراس للعروسين وفق مراسم وطقوس خاصة، وكذا للأبناء في عيدي الفطر والأضحى، وحتى للأضاحي في عيد الأضحى.
حق "السكر"
ودافعت كثيرات من رواد منصات التواصل عن عادة "حق الملح"، ورأت في تعليقاتهم على أن هذه العادة "يجب أن لا تقتصر فقط على رمضان، وفي بقية الأيام العام تُهان" على حد وصف إحدى الناشطات على موقع "فيسبوك".
لكن المفاجأة التي أفرزها ذلك النقاش هو "انتقاد نساء وبنات" لهذه العادة، واعتبرت بعضهن بأنها "عادة عبودية للمرأة"، أو "أنها عادة ليست جزائرية ودخيلة" بينما أبدت أخريات استغرابهن من عادة قالوا إنهن "لم يسمعوا بها يوماً".
ومن بين ردود الأفعال عبر منصات التواصل تلك التي كتبتها "أم أحمد" عبر موقع "فيسبوك"، واعتبرت بأن "هذه العادات ليست جزائرية ولا داعي للتشهير بها، لسنا عبيدا، نحن زوجات وأمهات يسعدنا كثيرا تحضير كل شيء بأيدينا لعائلاتنا ونكون سعيدات بذلك، ولا ننتظر خاتما ولا مبلغا من المال وكأننا جواري، نعمل أستاذات وطبيبات ومهندسات وممرضات وإداريات وغيرها".
أما ناشطة أخرى وبعد انتقادها لهذه العادة التي صنفتها في خانة "الخرافات"، فقد فاجأت المتابعين أيضا بـ"دفاعها عن الرجل" واعتبرت بأنه إذا كان للمرأة حق الملح فإن للرجل "حق الشقاء بعد يوم كامل من التعب في العمل وحمل أكياس الأغراض إلى المنزل".
ولم يتوقف النقاش الحاد إلى هذا الحد، بل التقى النقاش عند "آراء موحدة" بين الجنسين، وهم يطالبون بما أسموه "حق السكر للرجل"، معتبرين بأن "الرجل له نصيب كبير من الجهد في رمضان وبقية الأشهر باعتباره رب العائلة والمسؤول عن نفقة أولاده ويتحمل كل ظروف العمل ومتاعب الحياة من أجل حياته، ويجب على الزوجة تكريمه بهدية أيضا".
أما "ريم" فقد أشارت إلى تمسك عائلتها بهذه العادة إلى يومنا رغم الردود التي جاءتها بأنها "تبالغ في الأمر"، وذكرت في تعليق لها بأن "الرجل الجزائري يخاف الله، حتى أنه يطلب السماح من زوجته فيما تعده من طعام أيام رمضان، حتى اليوم أبي يكرمنا بحق الملح".
بدورها قالت السيدة "فاطمة" وهي من مدينة باتنة شرقي البلاد في حديثها إنها "لم تسمع يوماً بهذه العادة"، لكنها أشارت إلى وجودها في الأصل في المجتمع الجزائري.
وتذكر عدة سيدات جزائريات خصوصاً في العاصمة بأن لهذه العادة القديمة طقوساً خاصة، إذ تقوم المرأة صبيحة يوم العيد بالتعطر وارتداء أجمل ألبستها وبزينة خاصة وتقوم بتبخير المنزل لاستقبال زوجها بعد عودته من صلاة العيد.
وتستقبله بتلك الطلة البهية وصينية العيد تكون فيها القهوة أول ما يشربه زوجها في فنجان خاص، وبعد أن يكمل احتساء القهوة "لا يعيد لها الفنجان فارغاً"، حيث يضع هدية لزوجته داخل ذلك الفنجان تكون قطعة من الذهب أو مبلغاً من المال.