كما لا يخفى على حضرات القرّاء الكرام، فزاويتنا هذه ليست فقهية ولا وعظية إرشادية، إنما هي لغوية بحتة، تهتم بالجذور وجدلية الحرف العربي، وتقليبات الحروف وما ينتج عنها من تقلّبٍ في المعنى...
ولكن سامحونا لو خرجنا قليلا عن جوهر هذه الزاوية فتحدثنا اليوم عما بعد شهر رمضان المعظم، ولولا قداسة الشهر وأهميته لما سمحنا لأنفسنا بهذا الخروج.
خروج بهي جميل في دائرة أخلاقية قيمية.
وليس كخروج بعض المتثاقفين السُّوقة ممن يعتبر نفسه خصما وحكما فيروح بإرسال كلمات لي، ليس لها معنى إلا التحلل الأخلاقي بل وانعدام الأخلاق يستفزني بها بالهجوم على الإسلام وتعاليمه وثوابته وشعائره، كما يفعل أحد السفهاء وأظن اسمه جمال بطرس، يريدني أن أفتح عليه جبهة وحربا ضروساً، مبتعدين عن هدف وموضوع هذه الزاوية، ولكننا نتسامى فوق التفاهة والسَّفَه وأهله بتركه والتغاضي، لا عن عيٍّ وعجز وإنما أخلاقنا الإسلامية التي تربينا عليها تأبى علينا الانحدار وراء من لا يستحقون حتى أن نذكر أسماءهم.
ما بعد رمضان:
زمنيا يأتي شهر شوال بعد رمضان مباشرة، وفيه موسم تعبدي رائع وهو صيام ستة أيام منه، فيكون العابد كأنه صام السنة كلها:
السنة كما نعلم ثلاثمئة وستون يوما تقريبا،
ومن صام شهر رمضان فقد صام ثلاثين يوما وأتبعها ستا من شوال فصار كأنه صام ثلاثمئةٍ وستين يوما، وبتكرار فعلها كل عام يكون كمن صام الدهر!
وشوال أول أشهر الحج، وهو من الجذر الثلاثي (ش و ل)، قال الرازي:
شُلْتُ بالجرة بالضم أشول بها شَوْلاً رفعتها ولا تقل شِلْت بالكسر ويقال أيضا أشَلْتُ الجرة فانْشَالَتْ هي و شالَ الميزان ارتفعت إحدى كفتيه و شَوَّالٌ أول أشهر الحج والجمع شَوَّالاَتٌ و شَوَاويلُ، قال تعالى:
((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)) سورة البقرة. والأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة.
ومن أين أتت كلمة شوال، أو اسم الشهر القمري العاشر؟
معنى شول في لسان العرب شالت الناقةُ بذنَبِها تَشولُه شَوْلاً وشَوَلاناً وأَشالَتْه واسْتَشالَتْه أَي رَفَعَتْه.
والشّائلةُ من الإِبل التي أَتى عليها من حَمْلها أَو وَضْعها سبعةُ أَشهر فخَفَّ لبنُها ، والجمع شَوْلٌ قال الحرث بن حِلِّزةاليشكري:
لا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بأَغبارِهــــــا *** إِنَّك لا تَدْري مَنِ النَّاتِــــــــجُ
والشَّوْلُ من النُّوق التي خَفَّ لبنُها وارتفع ضَرْعُها وأَتى عليها سبعةُ أَشهر من يوم نَتاجها أَو ثمانيةٌ فلم يَبْقَ في ضُروعِها إِلا شَولٌ من اللبن أَي بَقِيَّة مقدار ثلثِ ما كانت تَحْلُب حِدْثان نَتاجِها، واحدتها شائِلةٌ وهو جمع على غير قياس وفي حديث نَضْلة بن عمرو: (فهَجم عليه شَوائِلُ له فسَقاه من أَلبانها) هو جمع شائلة وهي الناقة التي شالَ لبنُها أَي ارْتَفع وتسمى الشَّوْلَ أَي ذات شَوْلٍ لأَنه لم يَبق في ضَرْعِها إِلا شَوْلٌ من لبن أَي بَقِيّة.
وفي حوران والبادية خاصة وبلاد الشام عامة يقال للتبيع من البهائم(شولي) إذا كانت أمه قد ارتفع لبنها وخفَّ، فصار واجبا عليه أن يعتمد على نفسه بالرَّعي.
يقولون: خروف شولي وجدْي شولي وحُوار شولي .... وهكذا.
وفيما بعد رمضان قول أحد الصحابة الكرام:
(من كان يعبد رمضان فإنَّ رمضان قد ولى وانصرم، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت). وليعلم من قصَّــر في العبادة في رمضان أنه إنما قصر بحق نفسه وظلمها ظلما كبيرا.
والقدر لنا بالمرصاد ولن ينجو منه النجاة الحقيقية إلا من أدّى حق الله تعالى ، والتزم أوامر الشريعة واجتنب النواهي وعمل لمنفعة الحضارة الإنسانية ورقيّ
البشرية عامة، فذلكم هو السعيد الناجي.
وأختم حلقة اليوم بذكر قصة الأعرابي الذي خرج هارباَ من الطاعون، فلدغته أفعى فمات، فرثته أمه(السلكة)(1):
طاف يبغي نجوة ... من هلاكٍ فهلك
ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك؟
أمريض لم تعد ... أم عدو ختلك؟
أم تولى بك ما ... غال في الدهر السلك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك
أي شيء حسن ... للفتى لم يك لك؟
كل شيء قاتل ... حين تلقى أجلك
طال ما قد نلت في ... غير كد أملك
إن أمراً فادحاً ... عن جوابي شغلك
سأعزي النفس إذ ... لم تجب من سألك
ليت قلبي ساعة ... صبره عنك ملك
ليت نفسي قدمت ... للمنايا بدلك
-------------------------------حاشية:
(1)- السَّلَكَة: عُرفت من خلال شخصية ولدها السليك, وهو ابن عمير السعدي التميمي. من الشعراء الصعاليك في الجاهلية: كان فتاكاً عداء أسود, قتل نحو عام 605 م, و 17 ق. هـ. فرثته أمه السلكة، والشعر من مجزوء المديد.