كتبنا في حلقة الأسبوع الفائت عن استقبال شهر رمضان المبارك في الجذور ، واليوم نتناول أمـرَ وداعـه في الجذور أيضــــــــــــــا ، وكانت طقوس الوداع لهذا الشهر المبارك تبدأ في ما بعد اليوم العاشر منه ، وهناك مَثَل شعبي يردده العامّة بهذه المناسبة ، يقول عن رمضـــــــــــان :
(إذا عشَّـر كشَّـر ) . والمعنى أنَّ الشهر الكريم إذا بلغ الثلُث فقد آذن بالرحيل (كشَّـر) . وتبدأ طقوس الوداع أحيانا في أول العشر الأواخر لا في الأُوَل .
وفي البحث في الجذور أغناني بحثٌ لفضيلة الشيخ د. عبد الحكيم الأنيس نشره في موقع الألوكـــة ، موضوعه في وداع الشهر الفضيل ، وهو رسالة طيبة للإمام أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى ،(1) قال عنها :
هذه رسالةٌ نافعةٌ ماتعةٌ، موجِّهةٌ ناصِحةٌ، كتبها الإمامُ الجليلُ أبو الفرج عبدالرحمن بن علي المعروف بابن الجَوزي البغدادي، بمناسبة وداع شهر رمضان، هذا الشهر المبارك الذي أكرم اللهُ به الأُمَّة، وجعلَهُ موسمًا عظيمًا مِنْ مواسم الخيرات والبركات.
وقد درَجَ العلماءُ والمُربُّون والمُوجِّهون على تذكير الأمة بفضلهِ، وضرورة اغتنام أيامه ولياليه، وجعلهِ منطَلَقًا فاصِلاً إلى الله سبحانه وتعالى.
وتأتي هذه الرسالة في هذا السياق، لتذكِّر وتبصِّر، وتحضَّ على استدراكِ ما فات، واغتنامِ ما بقيَ، وترقِّقَ القلوبَ بأسلوبٍ سهلٍ مؤثرٍ، وكلماتٍ صادقةٍ صادعةٍ.
وقد كان ابنُ الجوزي إمامًا كبيرًا، وداعيًا إلى الله بصيرًا، وكانت مجالسه في بغداد التي يعقدها للتعليم والتوجيه، والتربية والسلوك، وتجديد العهد مع الله، مِنْ أشهر المجالس في التاريخ الإسلامي، ولا غرابة فهو واعظُ الإسلام الموهوب، وطبيبُ الأرواح والنفوس والقلوب.
ولعل هذه الرسالة كان قد ألقاها في بعض مجالسه، ثم دوَّنها، وأكرمنا اللهُ عز وجل بوصول ثلاثِ نسخ لها.
وهذه النسخ هي:
• نسخة في المكتبة السليمانية في إسطنبول، وأصلُها من يني جامع [أي الجامع الجديد]، ضمن مجموع برقم (1185)، في (4) ورقات.
• نسخة في مكتبة جامعة الملك سعود في الرياض، ضمن مجموع برقم (3428)، كتبها عبدالعزيز العبدالرحمن البسام سنة 1322، في (4) ورقات أيضًا.
• نسخة في الأسكوريال في إسبانيا برقم (436)، ذكرها بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي" (5/354).
وقد وقفتُ على هذه النسخ الثلاث - والنسخة الثالثة تالفة وناقصة جدًا، فقد سقط أكثرُها! - وعددتُ الأولى أصلاً، واستعنتُ بالثانية، ورمزها «ر»، واكتفيتُ بإثبات الفروق المفيدة، وتجاوزتُ الأخطاءَ والسقطَ فيها (الكلام هنا لسماحة الشيخ د. الأنيس، وليس لي) .
وقدَّمتُ تعريفًا بالمؤلِّف فيه شيءٌ مِنْ نشاطه في رمضان، وتأليفه فيه، ووصف مجالسه بقلم الرحالة الأندلسي الشهير ابن جُبير.
ولا بُدَّ من القول بأنَّ أحدًا من المؤرِّخين لم يذكرْ هذه الرسالة لابن الجوزي - سوى بروكلمان الذي ذكرها مُعتمدًا على وجودها مخطوطة في الأسكوريال -.
ولا أعلمُ أحدًا سبق ابنَ الجوزي إلى إفراد هذا الموضوع برسالة، لكني رأيت مَنْ ألَّف بعده فيه، وهو العلامة ابن الوزير (ت:840هـ) فله: «مثير الأحزان في وداع رمضان»(2).
واللهَ نسألُ أن ينفع بهذه الرسالة، وأنْ يجزي مؤلِّفها خير الجزاء.
ويجب أن نثبت هنا أنَّ علماً كابن الوزير (775-840هـ) –رحمه الله- (3) لم يستوف حقّه من الدراسة الواعية الشاملة لجوانب حياته وآثاره!! تلك الدراسة القائمة على السّبر والاستقصاء والتتبّع. هذا رغم ما لهذا الإمام من أهمية عظمى في التغيّرات الفكرية والعقدية في اليمن, فإنه وقف بقوّة وصلابة أمام الامتداد الزّيدي لمعتزلي, ناقضاً لمبانيه, داحضاً لشبهاته ومباغيه.
وتكمن أهميّة دراسة هذه الشخصيّة في جانبين:
أولهما: في تلك الثروة العلمية التي خلّفها, حيث جمع بين العلوم النقلية, والعلوم العقلية –وقلّما يجتمعان-!!
ثانيهما: تلك المدرسة الممتدّة للفكر الإصلاحي الذي اختطه ابن الوزير –رحمه الله- في تلك المنطقة, متمثلاً ذلك المنهج في نخبة من العلماء, لهم مواقف مسطورة, على تفاوت بينهم فمن مقلّ ومستكثر، وأبرزهم النهمي رفيق ابن الوزير ، وقد صنّف ابنَ الوزير كثيرٌ من المؤرخين في عداد الشيعة الزيدية ، وإنما هو عالم من علماء السنّة والدفاع عنها، وهو خطأ يقع فيه كيثرون في الخلط بين علماء الزيدية وعلماء السنّة الشافعية في اليمن نظرا للتداخل بين الفريقين والتسامح والبعد عن الجدل السلبي بين الفريقين عبر التاريخ المشترك ، ولم تكن السياسة قد أفسدت الجوَّ بين المذهبين حتى جاءت الثورة الخمينية التي أفسدت وخرَّبت كلَّ شيءٍ بين الفريقين إفساداً انتهى الى حربٍ ضروس وصراع دمويّ قاسٍ امتدّت آثاره إلى المنطقة كلها .
ونعود لابن الوزير رحمه الله فلقد أبدع حقا في رسالته حول وداع شهر رمضان الفضيل ، ونجزم أنّه استفاد من تجربة ابن الجوزي البغدادي قبله، رحمهما الله.
===============حاشية :
(1)-- ابن الجوزي، هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري. فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم (510هـ/1116م - 12 رمضان 597 هـ) ولد وتوفي في بغداد. حظي بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون. يعود نسبه إلى محمد بن أبي بكر الصديق.
عرف بابن الجوزي لشجرة جوز كانت في داره ببلدة واسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقيل: نسبة إلى "فرضة الجوز" وهي مرفأ نهر البصرة.
(2)-وهذا الكتاب يختلف عن كتاب مثير الاحزان للشيخ الشيعي ابن نما الحلي .
(3)- هذا الإمام هو أحد الأعلام حقًا والمحررين صدقًا والمجتهدين عدلا لا لغوًا، قال فيه الشوكاني -رحمه الله- في البدر الطالع :
صاحب الترجمة هو الإمام الكبير المجتهد المطلق المعروف بابن الوزير ولد في شهر رجب سنة 775 خمس وسبعين وسبعمائة..تبحر في جميع العلوم وفاق الأقران واشتهر صيته وبعد ذكره وطار علمه في الأقطار ومن رام أن يعرف حاله ومقدار علمه فعليه بمطالعة مصنفاته فإنها شاهدٌ عدلٌ على علو طبقته فإنَّه يسرد في المسألة الواحدة من الوجوه ما يُبهر لب مطالعه ويعرفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام كما يفعله في العواصم والقواصم.. ، وهو في أربعة مجلدات يشتمل على فوائد في أنواع من العلوم لا توجد في شيء من الكتب ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر ومن مصنفاته ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان وهو كتاب في غاية الإفادة والإجادة على أسلوب مخترع لا يقدر على مثله إلا مثله ومنها كتاب الروض الباسم في مجلد اختصره من العواصم وكتاب ايثار الحق على الخلق وهو غريب الأسلوب مفيد في بابه وله كتاب جمعه في التفسير النبوى ومنها مؤلف في مدح العزبة والعزلة ومؤلف في الرد على المعرى سماه نصر الأعيان على شر العميان وله كتاب البرهان القاطع في معرفة الصانع وله كتاب التنقيح في علوم الحديث وله مؤلفات غير هذه أبرزها ما ذكرناه آنفا في وداع شهر رمضان الكريم . وكانت وفاته في سابع وعشرين شهر محرم سنة 840 أربعين وثمان مائة .